jeudi 28 janvier 2010

مازال في الكأس بقيّة



لأنّه ليس خطأ أن تكتشف أنّك كنت على خطأ، و أنّك كنت تجامل نفسك و تخادعها. و لكن الخطأ في أن تستمرّ مكابرا حتّى بعد أن تكتشف الحقيقة. الخطأ أن تظلّ تغلق النّوافذ و ترخي السّتائر ثمّ تصرّ على أنّ الشمس لمَّا تطلعْ، و أنّ اللّيل مازال يغزو المدينة.

قد نفشل، و من لا يفشل؟ ثم نكتشف أنّنا كنّا قد خسرنا جولة لا معركة ... أنا خُدِعت ، و من لا يُخدَع ؟ و أنا تلقّيت الطّعنات في الظّهر ، لكنّ تلك الطّعنات أكّدت لي أنّني أسير في المقدّمة ... و أنا قد تألّمت فعلا ، لكنّ كبرياء الألم هي التي كانت تزيّف الأشياء يوم قلت : لم أعد أبالي بأيّ شيء . كبرياء الطّفل الذي يأبى الاعتراف بأنّ أمّه ضربته لأنّه مازال يحبّها.
أجل أحبّها أمّي الحياة، أحبّها.من قال إنّ النّار لا تحرق نفسها بينما هي تحرق الأشياء ؟ صحيح أنّها تستعر و يشتدّ عودها كلّما أكلت جسما جديدا غير أنّها تتآكل معه دون أن تدري .. حمقاء . من قال إنّ السجّان أكثر حريّة من سجينه؟ طالما لديه من يقبع خلف القضبان فسيبقى سجينا بسجنه. من قال إنّنا سنرفض الوجود و نتظاهر باللامبالاة؟ الحياة جميلة و أجمل ما فيها أنّنا لا نموت إلاّ لنحيا من جديد ، لا نترنّح إلاّ لنستقيم و نعاود السّير. مازال في الكأس بقيّة
.

jeudi 14 janvier 2010

جنـــــــــــــــون


في ركن مظلم من الغرفة تكوّم "الفاضل" تقرفه رائحة كريهة منبعثة من إناء بجواره، شعر بشيء لزج يسيل من صدغه، رفع يده ليزيله فداهمه ألم حادّ في كتفه شلّ حركته، تحالف عليه الألم و الجوع و البرد فلم يغفُ جفناه. منذ مدّة غادره النّزيل الذي كان يقاسمه المكان، ذهب دون أن يُلقي تحيّة الوداع، لا يدري إلى أين، خرج و لم يعد. ليس متأكّدا إن كان ذلك منذ يومين أو أكثر فقد أهمل العَدّ، ما عاد التّاريخ يعنيه، درّسه طوال ربع قرن ثمّ خمدت إثارته.و توصّل في خاتمة المطاف إلى حقيقة مريحة و هي أنّ لا شيء يبقى على حاله إلاّ الأفكار. ما الفرد إلاّ مادّة و فكرة فإن تلاشت المادّة بمفعول الزمن و الآفات فالفكرة باقية لا تندثر.
فجأة طرق سمعه أزيز خافت ظنّه في البدء الصوت المعتاد رفيق أيّامه و لياليه ثمّ ما لبث أن ركّز السّمع ثانية فإذا بالأزيز يرافقه صرير و كأنّه الأنين يأتي من ناحية الباب. دفعه فضوله فتحامل على آلامه و زحف باتّجاه الأصوات. وضع أذنه على الباب فجحظت عيناه من هول ما رأى و سمع.
قال مقبض الباب للمسمار في ضجر:
ـ مللت المقام بهذا المكان البغيض، ملعونة تلك الأيادي بأصابعها المنتفخة و أظافرها القذرة تديرني في خشونة فتكاد رقبتي تتحطّم حتّى بات لي في كلّ حركة حشرجة. كنت في معملي برّاقا كما المرآة المجلوّة أنعم بالرّاحة و الرّفقة حتّى إذا أراد صاحب المصنع انتقالي إلى أحد الدّكاكين، تخيّر لي من العلب أجملها و رسم صورتي خارجها و لفّ جسمي بورق شفّاف. أهكذا يكون مآلي؟ لطالما تخيّلت أن أصير في بعض البيوت الفاخرة تداعبني الأيدي النّاعمة تكسوها قفّازات القطيفة أو الحرير، أظنّني كنت أفضّل الحرير، و يشملني الدّفء و الموسيقى الرّقيقة. فإذا بي أقبع هنا في هذا المكان الكئيب و لا نجاة يا صديقي إلاّ بتلفي ثمّ طرحي في قمامة الأموات. بتُّ أنتظر ذلك اليوم علّي أستريح من عذابي.

نطق المسمار بصوت متقطّع و عين كسيرة:
ـ أذكر يوم جلبونا أوّل مرّة، كنّا مائة من المسامير الفتيّة محشورين في علبة كماالعبيد يتقاذفهم قبْوٌ عفن في سفينة قراصنة. و سرعان ما فرّقونا و كان نصيبي هذا الباب في هذا الممرّ المعتم. ظللت يومين أسمع صراخ الرّفاق و نحيبهم، لم أفهم ما يجري إلاّ حين انهالت على رأسي مطرقة ضخمة ففقدتُ وعيي و حين استفقت وجدتني غائصا في هذا الباب المقيت لا أقوى على الحركة. و ما أسفي على نفسي بأشدّ من حسرتي على شقيقي، لقد حاول مقاومة أيديهم و المطرقة، فاعوجّت ساقه، فضربوها بدل المرّة مرّات. أحدهم هوى على إصبعه خطأ فلعن المسامير و الصّناعة المحليّة، جرّبْ الألم أيّها الوغد، قُطِعت أيديهم، كانوا يريدون أن تستويَ منه السّاق لكنّها انكسرت فألقوه أرضا تتقاذفه الأحذية السّوداء الغليظة...
شرق المسمار بدموعه ثمّ أضاف:
كم وددت أن أنغرس في إحدى الأيدي اللّعينة فأدميها غير أنّي عاجز.. هنا عاجز.

بكى المسمار بكاء مُرّا و بكى معه كلّ ما في الغرفة. فجأة صرخ ثقب الباب في سوْرَة من الغضب:
ـ اسكُتْ.. اسكتوا جميعا، لا تتحدّثوا عن الألم و المعاناة.
ماذا عساي أقول عن نفسي و أنا تخترقني المفاتيح من الأمام و من الخلف عشرات المرّات في اليوم الواحد. كرامتي استُبيحَت على يد الأنذال...

فانفجر المقبض و المزلاج و المسامير و حتّى إناء الرّكن في ثورة من الضّحك. و ضحك "الفاضل" معهم، ضحك و ضحك حتّى انقبضت عضلات بطنه و سالت دموعه ثمّ لمع في عينيه بريق غريب، لم يعد يشعر بألم كتفه و لا برائحة المكان الكريهة، ارتسمت على وجهه ابتسامة و استقرّت و صارت نظرته تعانق عالما لا يراه غيره.
في الفجر، حان موعد زبانيته لمواصلة التّحقيق. كم هي ثقيلة ساعة الفجر، الاعتقال في الفجر و التحقيق في الفجر و الإعدام في الفجر. لحظة فاصلة بين حياة كائنات و موت أخرى، بين سجن المادّة و انعتاق الجوهر. لكنّ فجره اليوم مختلف.
انفتح الباب على ضخمين فوقف عن طواعية لا تفارقه ابتسامته الغريبة، سوّى هندامه و مرّر يده على شعره. هذه المرّة لن يمكّنهما من جَرّه زاحفا.

lundi 11 janvier 2010

الـنَّـفَـــق


في ليلة الميلاد سطعت فوق رأس الصبيّ أنوار كالأقمار أو أشدّ ، و تلألأت أضواء الاحتفالات و مصابيح السيّارات و تراقصت في لوحة بهيجة و لا أروع . كان يحتلّ المقعد الأمامي حذو أبيه و تتنازل له أمّه عن مضض . الشوارع مكتضّة فالجميع في طريقه إلى زيارة قريب ما . كان الصبيّ يتشوّق إلى طعام جدّته و يتخيّل هداياها و هو يلصق وجنته ببلّور النافذة تخلبه الأنوار التي أخذت تتراقص في كلّ اتّجاه و تتمازج ألوانها فإذا بالمحيط يتضرّج بغلالة ورديّة تدرّجت بين قواتم و فواتح خفّاقة هفّافة و إذا بكون رحيب يمتدّ أمامه فتراءت له قصور شامخة تزيّنها شرفات و نوافذ و بيارق بديعة الألوان و تنبعث منها أنغام رقيقة تحلّق بالرّوح إلى عالم أجمل من الجمال. هنالك شاهد الصبيّ لعبا و هدايا و قوالب حلوى عملاقة ترصّعها كلّ أنواع الفواكه ، و سار بمحاذاة نهر زمرّديّ جارٍ ، تقوده عصافير و ببّغاءات قزحيّة الألوان بعضها يحوم حوله يسبقه ثمّ يعود إليه و بعضها تكتنفه أشجار غريبة ثمارها . النّسيم لذيذ و الرّوائح شذيّة .
حين انجلت الدّهشة أخذ يقفز و يترنّم و يضحك و يلاحق الفراش ، رأى أحصنة بيضاء تركض في السّهل السّندسيّ الفسيح و طواويس و طيور نعام و ظباء مرقّطة ...غمرت قلبَه سعادة عارمة حتى كاد يُجنّ ، ما هذا المكان البديع ؟ ألا تغرب شمسه ؟ ألا تنام كائناته ؟ أ يُعقل أن يكون هو ... ؟
كثيرة كانت الحكايات التي سمعها عن ليلة الميلاد و يستغرب أنّها لا تُروَى إلاّ إذا حان موعدها ليلفّها النّسيان باقي السنة. صديقه أحمد قال مرّة : " أنا ظللتُ ساهرا و رأيته من خلال النّافذة بقلنسوّته الحمراء و ... " انهال عليه الرّفاق لطما و لكما ثمّ انفجروا جميعا في ضحك بريء ، حين هدأت قهقهتهم نطق سامي بجديّة " في كلّ رأس سنة كنت أعثر على عدّة لعب في غرفتي ، أحضنها و أركض لأطلع أبي عليها فيبتسم لي ابتسامته الغائمة و يصمت . الآن أدرك أنّها كانت طريقته كي يشغلني فأتركه بسلام مع كأسه .. كم كنت أبله "، و قف خالد و قال " أبي يقول نحن مسلمون و هذا العيد ليس عيدنا ". فجأة اتّجه الأطفال إلى الصبيّ و بصوت واحد " و أنت يا رامي أتصدّق وجود الأب نويل ؟ " تردّد قليلا ثمّ حدّق في الفراغ كمن يخاطب نفسه " ممممم أظنّ ... أظنّ أنّ عربته لا يمكن أن تزحف على التراب ، ليس لدينا ثلج ، لو كان لدينا ثلج ... " و لمعت عيناه ببريق وعد. وجم الأطفال . مزّق صوت سامي الصّمت في احتجاج " ماذا يعني ؟ ألا تحقّ لنا الهدايا و الأمنيات ؟ " حينها عاد خالد ليقول " جدّتي تصعد إلى سطح المنزل في شهر رمضان، تقول إذا انفتح باب العرش يتحقّق لك كلّ ما تتمنّاه . صعدت معها السنة الفارطة و تمنّيت درّاجة و لم أحصل على شيء ".
العرش ... كلمة تدغدغ منه الشّعور و لكنّه لا يصدّق. لطالما تساءل عن نصيب من لا يمكنهم بلوغ السّطح ، بل ما ذنب من لا بيوت لهم أصلا ، و إن كانت للعرش قدرة على تحقيق كلّ الأمنيات فلماذا يحتاج إلى سماعها فوق السّطوح ؟ و في هذه الحال كلّما كان السّطح أعلى وصل الطلب أفضل و من لا سطح له لا حقّ له في التمنّي . كم ضجّ عقله الصغير بهذه الأسئلة و كم طرحها على أهل بيته فلم يظفر إلاّ بابتسامة لطيفة من هذا أو بدمعة مترقرقة من عين ذاك فنسي الأمر برمّته.
أمّا هنا، في هذا المكان السّحريّ البديع فقد وجد كلّ ما تاقت إليه نفسه ، انطلاق و انعتاق و نقاء جمال لا يحدّه البصر و ألوان و أشكال يقصر عنها الخيال، لا موانع لا حدود و لا قيود، فضاء تخجلك روعته فتغضّ النّظر و لا تجرؤ يدك على لمس عنصر منه ، فضاء يشعرك أنّك الذات الوحيدة الضّئيلة النّاقصة فتكاد تعتذر عن وجودك فيه و توقن أنّك محظوظ حين شملتك عناية قادرة و ألقتك فيه ...
فجأة ، حمل إليه الأثير أصوات أطفال . ضحك و غناء ، لم يميّز الكلمات لكنّها كانت أصوات أطفال صغار فتضاعف فرحه . أخيرا عثر على الرّفقة في هذا المكان الرّحب ، أخيرا سيشاركه أحدهم المرح . تبع حاسّته إلى مصدر الصّوت يدفعه فضوله فلمحهم في حقل الأقحوان ، مجموعة من الأولاد و البنات ، اقترب منهم فتفطّنوا إليه و ابتسموا له في هدوء ، توقّفوا عن الرّقص و الغناء و تحلّقوا به . راقه تشابه ملابسهم البيضاء ، لابدّ أنّهم ينتمون إلى نفس المدرسة .
بادرهم قائلا : " مرحبا ، أنا إسمي رامي " فلم يردّوا و ظلّوا على ابتسامهم ، يبدو أنّهم لم يهتمّوا أو لعلّهم لم يفهموه . و سرعان ما اطمأنّ حين سأله أحدهم بلغته :
ـ كيف كانت رحلتك ؟
ـ رحلتي ؟؟؟
ـ نعم ، ألم يُخِفك النّفَق ؟
ـ أيّ نَفَق ؟
ـ كلّنا عبرناه ، كيف وصلت إلى هنا إن كنت لا تعرف النّفق ؟
تلفّت حوله في ارتباك يحدّق في عيون الأطفال كمن يبحث عمّن يسعفه بجواب غير أنّ الأطفال في تلك اللّحظة أدركوا أنّ الصبيّ الجديد مختلف ، و في حركة جماعيّة أخذوا خطوة إلى الخلف ثمّ خطوات ، لاحقهم و هو يطلب منهم البقاء و يتوسّل أن يشرح له أحدهم لكنّهم واصلوا التقهقر و تضاءلت قاماتهم حتّى صارت أصغر من زهور الأقحوان ثمّ غابت تماما .
هبّ على السّهل هواء بارد ارتجفت له أطراف الصبيّ إلاّ أنّه تجلّد و قرّر العودة من حيث أتى ، أسرع الخطى يبحث عن الحيوانات و الأشجار ، كان يمنّي نفسه بالعثور على النّهر ، إذا وجد النّهر سيسير بمحاذاته كما جاء حتّى يصل إلى القصور التي رآها في بداية رحلته . أخذ يجري و يسلك كلّ اتّجاه فلم يعثر على شيء . امّحى المكان فلا مكان و رانت ظلمة موحشة ماد لها قلب الصبيّ لكنّه لم يتوقّف عن السّير ، ظلّ يمشي لا يرى موطئ قدميه حتّى لاحت له على المدى البعيد نقطة دكناء أشدّ سوادا من الظلمة المحيطة به فتجدّد فيه النّشاط و خفق قلبه . كان متأكّدا من العثور على أحد القصور ، سيلجأ إليه حتّى ينجلي الظلام ، لا بدّ أن يجد فيه من يدلّه على طريق العودة . وضعه نصب عينيه و أخذ يتقدّم بكلّ تصميم في اتّجاهه ، كم كانت المسافة طويلة ، لا يهمّ . طريق العودة دائما أطول و أشقّ . يذكر في رحلات المدرسة كيف كان مع أصدقائه يغنّون و يمرحون و تتعالى هتافاتهم طيلة الذّهاب و في المساء تعود بهم الحافلة في صمت و ضجر حتّى أنّ بعضهم يغلبه النّوم . فلا داعي للقلق هنا إذن ، كانت النّقطة الدّاكنة تكبر كلّما اقترب و لكنّه مازال لم ير مبنى القصر و تفاصيله . استمرّ في السّير حتّى وصل فإذا بنفق كبير مظلم يكتنفه ، ما إن وضع قدمه فيه حتّى انزلق و راح يتدحرج تتلقّفه جنبات النّفق الأفعوانيّ الرّهيب فضاقت أنفاسه . كان طفل الحقل محقّا حين سأله عن خوفه من النّفق ، إنّه فعلا مخيف .
لم يدر كم مضى من الوقت على سقوطه في ذلك الفراغ المظلم حين بدأ يصغي إلى همهمات بعيدة خافتة بالكاد ميّز بعض الكلمات ، كانت أصواتا مختلفة " إنّه يغيب ، إنّه يغيب ، أسرعوا .. نبضه ينخفض .. قلبه لا يستجيب .. الآن ، راقبي النّبض ، مرّة أخرى ... " فجأة شعر بزلزال يدكّ النّفق و تدفعه الرجّة أميالا إلى الأمام ، تعقبها رجّة ثانية ، فثالثة .
لاح النّور في آخر النّفق ، الآن اتّضحت الأصوات :
ـ أحسنت دكتور ، حقّقت اللّيلة نجاحا باهرا في جراحة صعبة .
ـ أنا لم أفعل شيئا ، هذا الصبيّ أراد الحياة .

samedi 2 janvier 2010

الشّـــــريـــد


لمع البرق على هيئة فروع شجرة من الكهرباء فأضاء الطريق الضيّقة الموحشة الملتوية أمام سيّارة صغيرة يقود سائقها في حذر ، المطر يهطل بشراسة تنقر شآبيبُه البلّور الأمامي فلا يكاد يُرَى شيء ، على اليسار يقوم جبل جبّار تنذر صخوره بالسّقوط في أيّة لحظة و على اليمين حاجز خشبيّ قُـدَّ من جذوع الشجر هو كلّ ما يفصل الطريق عن هوة سحيقة تنتهي بشاطئ صخري تلطم أمواجه البرّ في صراع أبديّ زادته الرّيح هيجانا .
............................................................................
ليته بقي و لم يغادر ، ماذا عليه لو ازدرد شيئا من كرامته و أجّل المغادرة حتّى تهدأ سواكن الطبيعة
.
............................................................................
في كلّ إطلالة على قاع الهوة يغوص قلبه في أسفل بطنه ، هزيم الرّعد يكاد يدكّ الجبل فوق رأسه فيزداد تشبّثه بالمقود و عيناه لا تفارقان بضع أمتار من الطريق التي تضيئها مصابيح سيّارته القديمة .
.............................................................................
كان لابدّ أن يغادر ، لم يسْتَبْقِه أحد ، من كانت يهمّها أمره غيّبها الموت و لم يعد له في هذا الوجود صدر حنون يخشى عليه و يرأف . الأمّ ذات ملائكيّة يستحيل أن تكون من سائر البشر ، صدق الأجداد " يتيم الأب يتوسّد الرّكبة و يتيم الأمّ ينام في العَتَبَة " و من قال إنّ اليُتم يقتصر على الصِّبَى ؟ اليتيم يتيم في أيّة مرحلة من العمر . مذ ماتت والدته أدار له الزمن ظهره و انقلبت الدنيا على رأسه و لم تصْفُ له يوما . بدأت نتائجه تتقهقر و ساء سلوكه فلفظته المدرسة و رفض والده الإنفاق عليه لمواصلة تعليم حرّ أو تلقّي تكوين مهنيّ يقيه الفراغ و الرّذيلة فكان الشارع مسرحه النّشيط تعلّم فيه كلّ شيء و فعل فيه كلّ شيء التدخين و السُّكر و المخدّرات و السّرقة و دخل عالم الانحراف من بابه الكبير ، كثرت الكدمات في وجهه و جسده و احمرّت عيناه تلبّد شعره و اتّسخت ثيابه و تردّت هيأته و وافق كلّ ذلك أولى سنوات المراهقة . كان كلّما احتاج نقودا أو أحرقه الجوع عاد إلى البيت فينال نصيبه من والده شتما و ضربا و طردا في أغلب الأحيان . و لكي تكتمل مؤامرة حياته عليه جاءت القشّة التي قسمت ظهر البعير يوم تزوّج والده بامرأة شابّة استحوذت على قلبه و جيبه . لم تطق وجود الرّبيب في البلدة كلّها ليس في البيت فقط فحاكت و دبّرت و نفّذت و نجحت. أفاق ذات صباح على أعوان الأمن يقتحمون المخزن الذي يقيم فيه مع بعض الخلطاء و يقبضون عليه بتهمة سرقة مصوغ زوجة أبيه . كم انتحب و توسّل و أقسم أنّه ليس الفاعل ، كم تمنّى أن تظهر الحقيقة ، كم دعا الله أن يُخرجه من ورطته و وعده بالاستقامة . . لا القانون أنصفه و لا الله استمع إليه . أغْلِقَ دونه الباب الحديدي و قبع في إصلاحيّة الأحداث ثلاث سنوات و شهرين لم يزره فيها والده مرّة واحدة . علم أنّ زوجته أنجبت ولدا . حين أكمل المُدّة و خرج كان قد تجاوز الشعور بالألم و بالظلم و بالحرمان ، كان قد تجاوز كلّ شعور ، لم يبق في قلبه مكان للشّعور .
عاش في العاصمة نازحا وحيدا لا أهل و لا رفيق ، قَلّ كلامه و نابَتْ عنه نظرة حزينة لا تفارق عينيه الغائرتين . تقلّب في أعمال كثيرة ، عمل حمّالا و نادلا في مقهى و وَقّادا في حمّام و صَبِيّ فرَّان .. لم يستنكف من أيّ عمل كان كلّ همّه جمع المال لتنفيذ ما استقرّ في ذهنه . تَرْك البلد . وعده أحدهم بتمكينه من عبور البحر خلسة مقابل مبلغ ضخم ، ظلّ سنين يجمعه و بخل على نفسه بالزّاد ليالٍ كثيرة في سبيله . حين تمّ له ما أراد ، اقترض سيّارة قديمة من ورشة إصلاح السيّارات التي يعمل بها و وعد مُشغّله أن يُعيدها في الغد و اتّجه إلى مسقط رأسه . كان يودّ أن يُلقي تحيّة أخيرة على قبر أمّه قبل أن يغادر البلاد ، حين وصل إلى المقبرة كانت السّماء قد ادلهمّت بسحب دكناء تنذر بهبوب العاصفة و عَوَتْ ريح ديسمبر اللاّذعة و بدأت أولى زخّات المطر و لكنّه لم يشعر بكلّ ذلك . كان جاثما أمام الغائبة يناجيها و يشكو ظلم أبيه و النّاس و القانون و تخلّي إرادة السّماء عنه . خرج من المقبرة و مرّ ببطحاء البلدة ، انقبض قلبه و رَنـَتْ منه التفاتة إلى بيت أبيه و وجد قدميه تقودانه إليه كما في الصّغَر . قرع الباب فانفتح على صبيّ صغير " من أنت ؟ " قال الصبيّ في براءة فأجابه
:
ـ ما اسمك ؟
ـ منير

ـ أتعلم من أنا يا منير ؟

انكمش الصبيّ و اختفى نصفه خلف دفّة الباب

ـ لا تخف ، أنا أخوك يا منير
ـ . . .
ـ هل والدك هنا ؟

ـ نعم

ـ نادِهِ يا منير من فضلك

بعد فترة من الزمن لم يقدّر طولها ظهر بالباب رجل جهم المحيّا في قسماته غلظة و في عينيه حزن . ارتبك في حضرة أبيه ثمّ تقدّم و قبّل كتفه و قال " جئت لأخبرك بأمرين ، أوّلهما أنّي سأهاجر بدون رجوع و الثاني أنّي بريء من سرقة المصوغ و أقسم على قبر أمّي بذلك " لانت ملامح الشيخ و تدلّى شارباه و تمتم بكلمات سمع منها " صحبتك السّلامة " استدار و اتّجه إلى السيّارة ليغادر لكنّه ناداه أن " انتظرْ " غاب بالدّاخل بضع دقائق ثمّ عاد و دسّ في جيبه مبلغا من المال . كم تمنّى لو أخذه في حضنه و دعاه للمبيت عنده في ذلك الطّقس ، كم تمنّى لو عرّفه على أخيه و لو لليلة واحدة .
ا.......................................................................................
اغرورقت عيناه بالدّموع فلم يعد يميّز الطّريق ، الرّعد يقصف بشدّة و المطر ازداد غزارة . كان على
وشك أن يمسح دموعه حين أعشاه ضوء قويّ مباغت ، ظهرت شاحنة في الاتّجاه المعاكس ، خشي الاصطدام بها فمال إلى اليمين قليلا كي يتفاداها لكنّ السيّارة انزلقت و حادت عن الإسفلت المُعَبّد و ارتطمت بالحاجز الخشبيّ و حطّمته و وقعت في الهوّة محدثة قرقعة رهيبة على صخور المنحدر . كان يريد دخول البحر ، ها قد دخله و لكن أشلاء متناثرة . فليهنأ العالم .