lundi 26 décembre 2011

إجازة مدفوعة الأجر لإدارة البرامج في التلفزة التونسيّة

استحوذ البثُّ المباشر لمداولات المجلس التأسيسي على نصيب الأسد من الزمن الإعلامي في القنوات  التلفزيّة التونسيّة خلال ساعات النّهار، بفترة صباحيّة و أخرى بعد الظّهر و أحيانا فترة ثالثة مسائيّة  في بداية السهرة. مع ضرورة التنويه بأنّه كان مطلبا شعبيّا عريضا باعتبار أنّ ما يحدث داخل المجلس من نقاشات و عرض لتقارير اللّجان الفرعيّة و تصويت على القرارات، للشعب حقّ الاطّلاع عليه في إبّانه، فقسمٌ كبير منه منح صوته لأعضاء يمثلونه و لولاه لما وصلوا إلى مقاعدهم تلك.
كلّ هذا جيّد و لكن تطفو على السّطح أسئلة عديدة من العبث تجاهلها. فما جدوى بثّ مداولات المجلس في كلتا القناتين الوطنيّتين الأولى و الثانية ؟ و هما توأمان تشتركان في نسبة كبيرة من البرامج عبر البثّ الموحَّد كالأخبار و النشرات الجويّة و مقابلات كرة القدم و بعض المسلسلات، بل أجدُني أتساءل أساسا عن جدوى قناة وطنيّة ثانية بميزانيّتها و أسطول موظّفيها إن لم تكن مختلفة عن القناة الأولى؟ أما كان من الأجدر إعادة النظر جذريّا في أدائها أو التخلّي عنها ربحا للمال العامّ خصوصا و نحن نسمع هذه الفترة عن الوضعيّة الصّعبة للاقتصاد التونسيّ ؟
من ناحية ثانية، ما مدى وجاهة البرامج المقدَّمة خارج فترات بثّ مداولات المجلس التأسيسي و خارج بثّ النشاط الرئاسي المقتصر إلى حدّ الآن على الخطابات الكثيرة و الأحاديث التلفزيّة و استقبال الشخصيّات و الهيئات؟ و هل هذه البرمجة في مستوى الحدث الأهمّ الذي يتابعه التونسيّون بكلّ اهتمام؟ بل هل هي في مستوى توقعات المُشاهد التونسي و تطلعاته بعد الثورة و خصوصا مع كلّ المخاض الذي تعيشه البلادُ في مناطق عدّة منها؟
أقول لكم ماذا يُـقدَّم: مسلسلات قديمة يُعادُ بثها لستُ أفهم لها طائلا أو مبرِّرا و لا أرى لها جمهورا متلهِّفا، برامجُ حواريّة يستميت أصحابُها في استضافة نفس الوجوه تقريبا حتّى صارت بعض الشخصيّات مع احترامي لها، مدعاة للسّخرية حين يتهكّم البعض قائلا: "هل صار فلان مقيما في مبنى التلفزة؟"، و لو فتحتُ باب النقد لاختيار مواضيع الملفـّات و مدى تزامنها و اتّساقها مع أحداث الشارع التونسي لأفردتُ له مقالا قائما بذاته. ثمّ إلى جانب هذين الطبقين، تبثّ القناة الوطنيّة الأولى أو الثانية – لا فرق- أحيانا بعض البرامج الوثائقيّة القديمة أيضا، الضاحكة على ذقن التونسي و السّاخرة من عقله، من قبيل "كيفيّة صيد الخنزير" أو " حياة الأخطبوط " أو " الهندسة المعماريّة في بيوت مدينة تونس" أو "جولة في الجامع الأعظم بالقيروان"... و القائمة تطول. و هذه أيضا لو تحدّثت عن مدى تنافرها مع ما يحدث في الحوض المنجميّ مثلا أو في كليّة الآداب أو في أيّ منطقة مُعدَمَة تعيش دون عتبة الفقر، و ما تقتضيه هذه الملفات السّاخنة من زيارات ميدانيّة و أشرطة وثائقيّة و شهادات حيّة و تحميل أصحاب القرار لمسؤوليّاتهم ... للزمني الأمرُ مقالا آخر أيضا.
لستُ أوجِّه حديثي للقنوات التلفزيّة الخاصّة، إذ ما من عَمَار بيني و بين أيّة مؤسَّسة كانت لا أعلم مصدرَ تمويلها، و التي تبثّ بين البرنامج و الآخر مجموعة من المُعدَمين – لعن الله الفقرَ- يلهجون بحمد صاحبها، مَشاهِدُ عاشت و عشّشت و فرّختْ بيننا منذ أكثر من خمسين سنة. و لكنّ خطابي مُوجَّه للتلفزة الوطنيّة المقتطِعة من ميزانيّة الدولة التي يدفع التونسيّون لها الأداءات و الضرائب و فواتير الكهرباء.
أين إدارة البرامج في مؤسّسة التلفزة التونسيّة ؟ هل دخلت في سباتها الشتويّ بفضل مداولات المجلس التأسيسي و خطابات رئيس الدولة الكثيرة و نشاطه الرئاسي الكثيف؟ كيف ستؤثـِّث ساعات البثّ بعد انتهاء تلك المداولات – إذ لا بدّ لها أن تنتهي على الأقلّ استجابة للقدَر- ؟ أين إدارة الإنتاج؟ و ماذا أعدّت للساعات المتبقية من اليوم؟ أم أنّ حظّ التونسي دائما طبقٌ باردٌ في وسائل إعلامه كما على طاولته؟
إن كانت لا هذه الإدارة و لا تلك بصدد العمل و الاجتهاد و الإنتاج و الحركة رغم الميزانيّة المرصودة لها و رواتب موظفيها و امتيازات مديريها، فهي إذن إجازة طويلة مدفوعة الأجر. لا عجب حينئذ أن يمرّ مستوى نموّنا الاقتصادي بصعوبات حرجة.

mardi 6 décembre 2011

موهبة الجمع و المنع

حدَّث صاحبٌ لنا قال
اجتمع قومٌ في المسجد ممّن ينتحل تحليل الجهاد و تحريم عيش النّساء من دون العباد، و قد كان هذا المذهب عندهم كالنَّسَب الذي يجمع على التّحابب و كالحلف الذي يجمع على التناصر، و كانوا إذا التقوا في حلقتهم تذاكروا هذا الباب و تطارحوه و تدارسوه التماسا للفائدة و استمتاعا بذكره. و بينما هم كذلك إذ اندفع شيخٌ منهم فقال: " لم أرَ في وضع الأمور مواضعها و في توفيتها غاية حقوقها، كسُراقة الجَبَليّ." قالوا: " و ما شأنُ سُرَاقةَ هذا ؟ " قال: " أهدى إليه العامَ إبنُ عمّه سَامْ أرضًا عامرة خصيبة، أهلـُها بين ماجنٍ سائبٍ و تائب كاذب و عاطل في الشّغل راغب. فرأيتـُه كئيبا حزينا مفكّرا مطرقا، فقلت له: ما خطبُكَ يا سُراقـَة؟ قال: أنا رجلٌ لا أقرأ، و لا عهدَ لي بتدبير حال البلدان و قد ذهب الذين كانوا يدبّرونه، و قد خفتُ أن يضيع بعضُ هذه الأرض و لستُ أعرف وضع جميع الأمور في نصابها و قد علمتُ أنّ الله لم يخلق فيها و لا في غيرها شيئا لا منفعة فيه و لكنّ المرء يعجز لا محالة. و لستُ أخاف من تضييع القليل إلاّ أنّه يجرّ تضييع الكثير

أمّا العِلمُ ، فالوجه فيه معروف، و هو أن لا حاجة بنا للعلوم الصّحاح و لا إلى لغات الكفرة السُيّاح، و لنا في السّلف الصّالح خيرُ مَعين و به نلوذ و نستعين و في كتبه العلمُ المُبين. و أمّا دُورُ  الدُفِّ و الوترْ ، و الصّورة و الخَبَرْ فإنّهم لي مُوالون و بحمدي يسبّحون. و أمّا الرّؤوسُ العامِرَه و الحناجرُ الهادِرَه فسبيلـُها أن تـُكسَر ثمّ تـُطبَخ، فما ارتفع من الدّسَم فللمصباح في الليالي المُظلمة، أمّا العظام فيُوقَدُ بها. أمّا الأجورُ فشأنـُها أن يَجمُدَ سَيْرُها و يؤولَ إلى بيت المال رُبعُها. ثمّ قال : بقيَ عليَّ الانتفاعُ بالدّماء، و قد علمتُ أنّ الله عزّ و جلّ لم يُحرّم من الدم المسفوح إلاّ شربَه و أنّ له مواضعَ يجوز فيها و لا يُمنَعُ منها، و إن أنا لم أقعْ على علم ذلك حتّى يوضَع موضعَ الانتفاع به صار كَيَّة في قلبي و قذى في عيني و هَمـًّا لا يزال يعودُني. ثمّ ما لبث أن تبسّمَ، فقلتُ : ينبغي أن يكون قد انفتح لك بابُ الرّأي في الدم. قال: أجل، ذكرتُ أنّ قصرَ الخلافة قد تصدّعت جدرانُه و تهدّمت أركانه، و قد زعموا أنّه ليس شيء أزيد قوّة لبنيان السّلطان من التلطيخ بالدم الحارّ الدّسم، و قد استرحتُ الآن إذ وقع كلّ شيء موقعَه

قال شيخُهم: ثمّ لقيتـُه بعد أشهُرٍ عشر ، فقلتُ له " كيف كانت جباية العام؟" قال " بأبي أنتَ ، لم يَحِنْ وقتُ الجباية بعدُ، لنا في النِّـقاب حوارٌ و حساب، و لكلّ شيء إبّانٌ

فضرب أحدُ الحاضرين الأرضَ بقبضة يده ثمّ قال: لا تعلمُ أنّكَ من الفاسقين حتّى تسمع بأخبار الصّالحين

اقتباسا لقصة " معاذة العنبريّة " للجاحظ

dimanche 4 décembre 2011

الأوغــــــــــــــاد

كلّما امتدّت يدٌ، غابت حجّة و عجز عقلٌ و وَهَنت إرادة و ضَعُفَ موقف. فالـلّعنة على الأوغاد

dimanche 20 novembre 2011

الكــــــرسي

لماذا صرتُ أطيل فترات الوقوف و أزداد تجنّبا للجلوس فتطفو خصلتي المثيرة لعجب البعض و أحيانا لانزعاج بعض الكتل الجالسة دوما كفصيلة الرخويّات؟ اللعنة على الكرسي. معروفة أنا بإيثاري الوقوفَ أو الحركة في العمل و في البيت رغم الإرهاق الجسديّ و كأنّي "مولودة على غار نمّالة" حسب تعبير بعضهم، فإذا جلست، تورّمت قدماي و وجدتُ النهوضَ أثقل و أشدّ إيلاما. ملعونٌ ذلك الكرسيّ. و من بين كلّ الذكريات السيّئة العالقة، لا أعبأ إلاّ بتلك الوقعة المدوّية حين سُحِبَ الكرسيّ من خلفي   – خطأ- و أنا أستعدّ للدنوّ إلى مائدة الطعام في أحد المآتم، كنت بنت سنوات سبع لكنّ الذكرى أبَدا حاضرة و الوقعة جِدُّ مهينة. تـبّا لذلك الكرسيّ. لماذا يشغل كبيرُ الأسرة دائما نفس الكرسيّ على المائدة و لا يجرؤ عليه غيرُه، فإذا مات ظلّ كرسيُّه فارغا ينغّص على الأحياء مأدبات الغداء و العشاء و الويل لمن يجلس فيه، سيُنعَت بالصفاقة و موت الشعور. ما أتعس الكرسي. و كيف يتبجّح بعض المؤمنين بأنّ نبيّ الله سليمان مات على كرسيّه دون أن تتفطّن الرعيّة الغبيّة – و كأنّ هناك فرقا بين حاكم نائم و حاكم ميّت – و أنّه ظلّ كذلك مائة عام أو ألفا لا أدري فللرّواة دائما مشكلة مع الأرقام. كم هو مثير للشفقة ذلك الكرسيّ. أذكر في آخر العهد البورقيبيّ أحدَ كبار الموظفين في القصر الرئاسي   – رغم المنصب و درجة التعليم- كانت مهمّته حَملُ الكرسيّ خلف الزّعيم خلال جولاته. بئس المهمّة و بئس الكرسي. من بين كلّ الكراسي، هناك الأكثر تطرّفا و هو كرسيّ قوّاد المومس حين يجلس في انتظار المعلوم من الزبائن، كرسيّ قد يراوغ أحيانا الغايةَ التي صُنع لأجلها فيصلح ليُهشَّم على رأس حريفٍ خانه المالُ أو خانته الرّجولة. ما أقبح ذلك الكرسي. بعضُ أنواع التعذيب يتمّ على كرسيّ و إذا ألمّ بإحداهنّ مخاضٌ قديما أجلسوها على كرسيّ ، و الإعدامُ بالكهرباء أداتُه كرسيّ. بغيضٌ كذا كرسي.
ما جلس حاكمٌ عربيّ على كرسيّ و قام عنه في تلقائيّة، بل ما جلس حاكم عربيّ على كرسيّ إلاّ و نـُفِضَ عنه كما يُنفَض السجّادُ القديم. سحقا للكرسي.
كلّ ما يثير غيظي في الموضوع برمّته، أنّي في حساسيّتي الشديدة من الكرسي أجد موقفي قد يلتقي مع بعض قوارض الخليج حين أفتوا بتحريم جلوس المرأة على الكرسي. تبّا، هؤلاء رَهطٌ لا أطيق أن يكون بيني و بينهم وجه شبه في شيء و لا أن يجمعني بهم حتّى كرسيّ في الجنّة. أفضّل الوقوف في عالم آخر.

بابلو نيرودا حين تكون الثقافة معبَرا للسياسة

مقالي الأسبوعي بجريدة "المغرب" الأحد 20 نوفمبر2011



1904 - 1973
       
            ممّا قرأت بعد الثورة – و الحصيلة هزيلة في الحقيقة – رواية أهدتنيها صديقة لي، من تأليف انطونيو سكارميتا و تعريب صالح علماني، عنوانها " ساعي بريد نيرودا ( صبر متأجّج )" و هي إصدار جديد بتاريخ السنة الجارية. كتب تقديمَها ظافر ناجي: ساعي بريد نيرودا، حين يصبح الشعر ماهيّة للرواية. هي حقّا رواية بطعم الفاكهة، تبدؤها فإذا أنت متورّط فيها حدَّ المتعة، تنال من كلّ حواسّك      و تسحبك إلى عالمها فلا تملك منها فكاكا قبل أن تقرأ الجملة الأخيرة. قد يعتقد البعض أنّ تشابك الأحداث و تشويق الوقائع هما اللذان يشدّان القارئ، لكنّ الحقيقة غير ذلك، بل هي على العكس تماما رواية شحيحة الشخصيّات قليلة الأحداث يمكن تلخيصها في كلمة نيرودا و هو ممَدَّد على فراش المرض ردًّا على ساعي بريده "ماريو خيمينث" وهو يسأله عمّا يشعر فيجيبه بكلّ بساطة: " أشعر بأنّي أحتضر.  و باستثناء ذلك ليس هناك ما هو خطير." أيّة مفارقة أجمل من لعبة اللغة توحي و تسخر و تمكر؟ لغة هي النسيج و اللباس و الرّائحة و الالتباس. تلتبس عليك الأحداث فلا تعرف ما الواقع و ما الخيال و ما السّحر، و تلتبس عليك الشخوص و الشخصيّات و الأشخاص فتتساءل: من البطل؟ و لا جواب.. كلّهم أبطال و لا بطل.
          " ساعي بريد نيرودا" أراد لها كاتبُها أن تكون رواية المسارات و الأقدار، أمنية رجل بسيط في أن يصير مشهورا و حلم شابّة بالحبّ و خوف أمّ على ابنتها و تاريخ وطن هو الشيلي في لحظة عاصفة على أيّام سالفادور ألندي في صعوده المظفَّر و سقوطه المدَوِّي الذي أحبط حلم ملايين البشر في ديمقراطيّة حقيقيّة و استبدله بكابوس أعتى الدكتاتوريّات العسكريّة التي عاشتها أمريكا اللاّتينيّة. هي رواية تتقاطع فيها الأقدار التي يفترض أن لا تلتقي. قدَرُ البحّار البسيط الذي يتحوّل بضربة حظ إلى ساعي بريد .. قدَرُ بابلو نيرودا الشاعر المناضل الشهير المنغرسُ في حياة البسطاء و تفاصيل خلافاتهم و حاناتهم الشعبيّة و هو ممزَّق بين السياسة و السّفارة المحتمَلة و بين القصيد و الجائزة المنتظرَة .. قدَرُ " ماريو" و هو يشحب حبًّا لـ"بياتريث" .. و قدَرُ بلد هو الشيلي يُمتَحَنُ في ديمقراطيّته .. مفارقات هي قمّة التناسق في التقائها، تماما كما تلتقي ماهيّات البحر و الحبّ و اللغة في اللاتناهي. إنّها ببساطة رواية مجدولة من ضفائر حكايتين أساسيّتين: حكاية حبّ فرديّة و حكاية ثورة شعبيّة. و ما الفرق حقّا ؟
يوم زفاف "ماريو" من "بياتريث" لبس نيرودا أفخر ما لديه، كان الزواج الكنائسيّ تدريبا على استلامه لمهامّه كسفير للشيلي الشيوعيّة في باريس.
          نحن إزاء رواية علامة في تاريخ الأدب العالمي. رواية، الشعرُ مبدؤها و منتهاها و مرجعُها   و مبتغاها فكلّ وظائفها السرديّة و أحداثها المفصليّة شِعرٌ على شعر، فالبحّارُ صار ساعي بريد للشاعر  و منه بدأ يسرق الأبيات قبل أن يسرق الصنعة ليغوي بها حبيبته، و الشاعرُ صار نجما بالشعر،         و بالشعر أصبح مناضلا.. علامة تؤكّدها الضجّة التي صاحبتها بعد أن تحوّلت الرواية إلى فيلم ثمّ إلى مسرحيّة  و رُشِّحت إلى أكبر الجوائز العالميّة و تُوِّجت بالعديد منها.. علامة تنساب المتعة مع سطورها كخَدَر الحبّ في العروق لذلك فهي تكره القارئ المُهَذَب و تنشد قارئا شبِقـًا لا ينتهي من الصفحة حتّى يستزيد إلى أن يفقد الوعي ... أي يسترجعه.
و مع ذلك، لم نسمع تصريحا للسياسيين الشيليين أنّ نيرودا سكّيرٌ فاسد و لم يسعوا إلى طمسه و تهميشه كعَلـَم من أعلام الثقافة الشيليّة.

dimanche 13 novembre 2011

ارفعوا الوصاية على الثقافة

مقالي الأسبوعي الصادر بجريدة " المغرب " اليوم الأحد 13 نوفمبر 2011

          " مارلا أولمستيد " صبيّة أمريكيّة من مواليد 2001 تسكن نيويورك، من أسرة عاديّة جدّا ككلّ الأسر متوسّطة الدّخل، يعمل الأب محاسبا أمّا الأمّ فممرّضة لدى طبيب أسنان، يدفعون الضرائب و يتنقلون إلى الكنيسة كلّ يوم أحد. حين تتأخّر الأمّ في العمل أو تعرّج على الأسواق لاقتناء حاجيات العائلة، كان الأب يُضطَر للبقاء بالبيت و رعاية ابنته إذ لم يكن في مدّخراتهما متّسَعٌ لاستخدام جليسة أطفال، فكان يشغل وقته ذاك بشيء من الرّسم من قبيل الترويح عن النفس لا أكثر، و كانت الطفلة  ذاتُ السنوات الأربع تطوف به و تزعجه كما يفعل كلّ الصّغار للفت الانتباه. لكنّه بدل انتهارها، أعطاها ورقة و فرشاة و بضعة ألوان. ظلّت ترسم و ترسم بالليل و النهار و في كلّ ركن من البيت، و لم يُعر الوالدان اهتماما إلاّ عندما امتلأت أرجاء المنزل بالرّسوم التجريديّة الصّاخبة. كانت تطلق الأسماء على لوحاتها فهذه " سلّم إلى السماء" و تلك " عندما كنت في بطن أمّي" و أخرى " نافذة من الأرض" ...
و كان للأسرة صديق يملك مطعما، شاهد الرّسوم في إحدى زياراته فاقترح على الأبوين عرضها في محلّه، استشارا ابنتهما فوافقت ببراءة على البعض لكنّها اعترضت على البعض الآخر لأنّها غير مكتملة فنزلا عند رغبتها. لاقت رسوم "مارلا" إعجابا و إقبالا من روّاد المطعم و أعرب كثيرون منهم عن رغبتهم في اقتناء بعضها، حينها اتّصل الصديق بالأبوين ليسأل إن كانا قد فكّرا في تسعير اللوحات، فالإقبال على شرائها يزداد يوما بعد يوم. في الحقيقة لم يكونا قد تنبّآ بأنّ رسوم طفلتهما قد تلاقي مثل ذاك القبول، و لكنّ العكس هو ما حدث. صادف أنّ أحد زبائن المطعم كان صحفيّا في جريدة يوميّة كتب مقالا بعنوان " طفلة في الرّابعة من عمرها تبدع في الرّسم التجريدي " و سرى الخبرُ بسرعة البرق. توافد على الأسرة الإعلاميّون و منتجو البرامج التلفزيّة و النقّادُ و الفنّانون. و أخيرا أقيم معرض "مارلا " الأوّل، و لاقى إقبالا كبيرا ، و قد باعت خلاله 43 لوحة. و أصبحت تتصدّر المجلاّت الفنيّة و يتزاحم علي استدعائها مقدّمو البرامج، و صار بيتها يعجّ بالصحفيين و المصوّرين و المنتجين السينمائيين. يكفي أن تنقر اسمها على موقع القوقل أو الويكيبيديا لترى رسومها.

للحقيقة لم أشاهد طيلة الشريط الوثائقي عن هذه الرسّامة الصغيرة أنّ أبويها اتّخذا قرارا يخصّ فنّها دون الرّجوع إليها و إن كانت آراؤها ساذجة، و لم يجيبا على أسئلة الإعلاميين بدلا عنها، كانت تجرّ الفريق الصحفيّ بأكمله خلفها حسب ما تقتضي براءتها الطفوليّة و قد لا تجيب إلاّ بإيماءة فيقنعون بذلك و أحيانا تسهب في الكلام عن رسمها فيصمت الجميعُ حتّى تفرغ من حديثها. كما لم أشاهد معلّمتها تدّعي أنّها تنبّأت بنبوغ الطفلة و كانت تشجّعها على ممارسة الرّسم ، و لم أشاهد عمدة نيويورك يلتصق بالصبيّة لالتقاط صورة خدمة لحملته الانتخابيّة، و لم أشاهد قسّ كنيسة الحيّ يخصّص صلاة الأحد ليُؤلّبَ المؤمنين على هذين الأبوين الذين " يصرفان ابنتهما عن طريق الربّ " بعرض صورها في المجلاّت الفنيّة "الخليعة" و على شاشات التلفزة و أنّ لوحة مثل "سلّم إلى السّماء" تـُعَدُّ كفرا و اعتداءً على مشاعر الأتقياء من المسيحيين ، و لم أشاهد رسّامين كبارا يقلّلون من قيمة رسوماتها و يحشدون ضدّها حملة تشهير خشية المنافسة. لم أر من هذا شيئا. بل رأيت مجتمعا يحتفي بطاقة إبداعيّة تفتّقت في عفويّة لتخطو خطواتها الأولى و يمدّ إليها يده دون وصاية أو صدّ.

لن أسقط في المقارنة فليس منها طائلٌ. وحدها هذه القصّة الحقيقيّة تفي بالغرض.


lundi 31 octobre 2011

هل كانت ثورة ثقافيّة ؟

مقالي الصادر بجريدة " المغرب " عدد الأحد 30 أكتوبر2011



فلنصارح أنفسنا و لنجابه الحقيقة العارية. لقد اندلعت في صفوف فئات عانت عقودا من الفقر و الجوع و البطالة و التهميش، و كان أهمّ شعار رُفِع خلال المظاهرات الأولى " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق " فالقوم هنا انتفضوا عندما كلَّ حِملهم ممّن سرق الثروات و عطّل الشباب عن العمل. و هذا أشبه بانتفاضة علي بن غذاهم ضدّ المكوس و الجباية. لا أذكر أحدا ثار من أجل تشويه الثقافة و أعلامها أو تهميش المعرفة و تجفيف منابعها أو توجيه الإعلام لخدمة النّظام أو التضييق على الفنون أو تهجير الأدمغة و الكفاءات... بل لا أذكر شعارا واحدا رُفِع في هذه المجالات. حين قال بعض الأجانب إنّها " ثورة جياع " كابرنا و ثار فينا الصّلفُ و غضبنا و رفضنا التوصيف الجارح لكرامتنا، رغم أنّه كان فينا مَن احتفل بنهاية السنة الإداريّة و تبادل الهدايا و التهاني و دماءُ بعض الأهل تسيل في داخل البلاد. حين اتّسعت رقعة الغضب و جوبهت بقمع أشدّ ، توجّسنا أنّ الأحداث يمكن أن تتمخّض على انتفاضة جادّة تعيد للأذهان حوادث 26 جانفي 1978 حينها التحقت بها النّخب و ألبسَتها لبوسا مثقـَّفا ممنهجا  و صدّقت نفسَها و الادّعاءَ بعد أن نضجت حبّة القسطل و امتدّت إليها يدُ القطّة و لم يبق على المثقفين و الأكاديميين و "المحلّلين" و كم تكاثروا إلاّ أن يزيلوا قشرتها و يلتهموها، فصارت ثورةَ الكرامة و نادت بحريّة التعبير. لكنّ الفقير بقي فقيرا و العاطل ظلّ عاطلا و السّارق لم يُحاسَب و القاتل لم يُعاقَب و لم تحدث الرجّة الفكريّة التي هي في نظري أهمّ من طرد الأشخاص و استبدالهم بآخرين ، فبقيت العقليّات على حالها.
فلا عجبَ أن يتعامل ناخِبٌ مع ورقة الاقتراع بعلامات الفوز و الهزيمة و التعادل كما يفعل بقسيمة التنمية الرياضيّة، ألم يَعْمَدْ النّظامُ السابق طيلة عقدين إلى دفع ثقافة الملاعب و تهميش المعرفة ؟
و لا غضبَ أن يُحدِثَ وَعدٌ بخروف فارقا انتخابيّا.
إذا كان المستوى التعليمي للتلميذ في انحدار متواصل مع فقدان شغفَه بالدّراسة، و ظلّ المُعلـِّمُ متمسِّكا بلغة صعبة مترفـِّعة و أسلوب تلقين جافّ فإنّ هناك خللا في بيداغوجيا التواصل. هذا ما لم تدركه بعضُ النّخب السياسيّة فكان مشروعُها حداثيّا واعِدا لكنّه جاء بعيدا عن مشاغل المواطن الكادح. في حين لوّن البعضُ الآخرُ خطابَه بلون المتلقِّي، تنقّلوا في السيّارات الفخمة إلى المناطق المرفَّهَة و تكلّموا باسم الديمقراطيّة و الحريّات الأساسيّة و حقوق الإنسان ... لكنّهم عندما التحموا بالجماهير في المناطق الفقيرة ساروا مترجّلين بهندام بسيط متواضع و غيّروا خطابَهم باتـّجاه التركيز على العدالة في توزيع الثروة و قدّموا الوعود بالرّعاية الصحيّة و بتحسين المقدرة الشرائيّة و غلّفوا كلّ هذا بوازع الأخلاق و المعتقد، بل و مرّوا مباشرة إلى الخطّة العمليّة بتقديم المساعدات. سَمِّـه ما شِئـت، تلوّنا ، مغالطة ، تلاعبا بالمشاعر العامّة ... تلك هي السياسة. و صناديق الاقتراع قالت كلمتَها الفصل.
و إنّه لمن الغرور، في ثورة الغضب ، نعتُ الشعب الذي اختار بالجهل و الوضاعة، فالحكمة السياسيّة تقتضي اليوم إعادة القراءة في أساليب العمل و لغة الخطاب و أنماط التعاطي مع القواعد الجماهيريّة. و الثورة التي لا تغيّر العقليّات لا يمكن أن تحرّر الإرادة و لا أن تحسّن علاقة الشعب بممثـِّليه. فلـنُـفِقْ لأنّ بلادنا مازالت بحاجة إلى عمل طويل و مُضنٍ للارتقاء بها إلى درجة النضج الثقافي و الوعي السياسي بدءًا بتقديس المعرفة.

jeudi 27 octobre 2011

تجليات في هيكل الثورة




في معارضة لقصيدة الشابّي " صلوات في هيكل الحبّ " كتبتُ هذه الكلمات
جريدة " المغرب " عدد الأحد 23 أكتوبر 2011 

ثورة أنتِ كالبرق كالرّعد كالسّحابِ المديدِ
كالسّماء الغضوب كاللّيلة الظلماء كالجُرح كصراخ الوليدِ
يالها من رياحٍ توقظ الرّهبة
في قلب الشقيّ العنيدِ
أيّ شيء تراكِ؟ هل أنتِ هامَة " الفاضِلِ" تهادَتْ
بيننا من جديدِ
لتعيدَ الغضبَ الثوريَّ للشباب المحطَّم المكدودِ
أم "الكاهنة" جاءتْ لتُحيِي روحَ الكفاح العتيدِ
أنتِ .. ما أنتِ .. أنتِ صرخة رفضٍ
من شعب مُكبَّلٍ بالحديدِ
فيكِ ما فيه من إرادة و إلهام و سِحر فريدِ
أنتِ .. ما أنتِ .. أنتِ فجرٌ من الياسمين
أزهرَ على قبر أمَلي الفقيدِ
فارتوَتْ روحيَ العطشَى و تجلّى النّورُ لقلبيَ المعمودِ
أنتِ روحُ الشتاء تختال في البلاد
فتهتزّ للظّلم واهِياتُ المَشيدِ
و يُدوِّي حُرُّ الوجود بالتّغريدِ
كلّما هتف الشّعبُ خفق القلبُ للحياة
و أزهرَتْ الدّماءُ في حقل عمريَ المجرودِ
أنتِ تُحيين في الشعب ما قد مات في الأمس البعيد الفقيدِ
و تشيدين في خرائب النّفس ما تلاشَى في عهد قهر مديدِ
من طموح إلى العدل و الجمال و انعتاق الطّائر الغرّيدِ
أنتِ أنشودة الأناشيد غنّاكِ " أبو القاسم" إلهُ القصيدِ
منكِ هبّ  الشبابُ يدفعُه حبُّ الحياة و سحرُ الصّمودِ
و تهادَى بكِ في الشوارع فتمايَلتِ
كلحن عبقريِّ الخيال شجيٍّ شديدِ
و خطوتِ سَكرَى بالدّماء و بالأناشيدِ
أنتِ .. أنتِ الحياة في وجهها الحُرِّ و في سحرها المنشودِ
أنتِ .. أنتِ الحياة في غضب الخريف
و في ديمة السّماء الوَلودِ
أنتِ .. أنتِ الحياة في هتاف الشباب
أنتِ قوسٌ من الألوان و الأحلام و الأنوار و الأزهار و الفضاء السّعيدِ
أنتِ فوق المقدام و الرّعديدِ
أنتِ فوق العمالة و الخيانة و المهانة و السّياسة و الوعودِ
و فوق كلّ الحدودِ
يا ابنة الشّعبِ إنّني ها هنا قد سئمتُ وجودي
فذريني أعيشُ في ظلّكِ و في قرْبِ نصركِ المشهودِ
عيشة البلبل الوحيد يناجي الحريّة
في نشوة الذّهول الشّديدِ
و ارحميني فقد تحطّمتُ في بلدٍ
من القهر و الصّمت و الظلام المشيدِ
أنقذيني من اليأس فلقد ملّتْ روحي جمودي
و انفثي فيَّ مرحَ الحياة و شُدِّي من أزريَ المكدودِ
و ابعثي في دمي دفأكِ عَلِّي أتغنَّى بالمُنَى من جديدِ
آهِ يا ثورتي العظيمة لو تدرين ما جَدَّ في فؤادي العَميدِ
في فؤادي الغريب تولَدُ أكوانٌ من الحُبّ رائِع التغريدِ
و شموسُ برّاقة و نجومٌ و شموعٌ و حدائقُ كالنّعيم المَديدِ
و بحارٌ كاللؤلؤ و سماءٌ كنُثارُ الورودِ
و ترانيمُ و أصوات رائعات النّشيدِ
و حياة فكريَّة هي عندي قبَسٌ من حياة أهل الخلودِ
كلّ هذا تشيدُهُ هالَة من إلهام نوركِ المعبودِ
فحرامٌ عليكِ أن تهدِمي ما شادَهُ الأملُ في فؤادي الشّريدِ
و حرامٌ عليكِ أن تبعثري أحلاما تصبو لعيشٍ جديدِ
منكِ ترجو أفقـًا طلقا لم تجدهُ في حياة الوجودِ
فالإلهُ الرّحيمُ لا يَرجُمُ العبدَ إذا كانَ في مَقامِ الشّـهيدِ

dimanche 16 octobre 2011

النــغم الـرَّمـــز



مقالي الصادر بجريدة "المغرب " اليوم الأحد 16 أكتوبر2011

أحيَتْ بلادُنا يوم أمس 15 أكتوبر ذكرى الجلاء. يوم مشهودٌ من أيّام تونس الخالدة، امتزجت فيه العزّة بالألم و ما نيلُ العزّة إلاّ بالتضحيات الأليمة. معركة ارتوت فيها الأرض بدماء الشهداء و مادت السّماءُ بأرواحهم الزكيّة، و رجالٌ عاهدوا الوطنَ على الموت حبًّا، فعرّضوا صدورهم للرّصاص في سبيل خروج الأجنبيّ من الدّيار، فتحقّق الجلاء. الجميلُ في "تونس الجميلة" على حدّ تعبير الشابّي أنّنا كلّما ذكرنا الجلاء قفز إلى الأذن و القلب و الذاكرة نشيدُ "بني وطني " للرّائعة عليّة ، قصيدٌ جبّار للعملاق الفذ عبد المجيد بن جدّو و تلحين الشادلي أنور. فجاء العملُ قامة إبداعيّة سامقة كلمة و لحنا و أداءً ، فكان و لا يزال رمزا لذكرى الجلاء. و البديعُ أنّ الرّاحلة عليّة أدّت هذا النّشيد سنة 1961 أي سنة معركة الجلاء التي دارت في جويلية 1961 و رغم ذلك فقد ترفّع العمل عن كلّ أشكال الارتجال. لا أكتمكم أنّي و بحكم اختصاصي في اللغة العربيّة التي نذرتُ لها حياتي المهنيّة، قد همتُ هياما بهذه القصيدة. و لا زالت تعتريني قشعريرة لحظة سماعها بل إنّ فيها بيتا بعينه أذرف من لظاه الدّمعَ حارّا إلى اليوم رغم تقادم السّنين. قصيدة تأسرك بذاك الاقتدار العجيب في توظيف اللغة للصورة الشعريّة ذات الدّلالة العميقة، نَفَسٌ وطنيٌّ تسربل بوجدانيّة عالية، لا شكوى و لا انتحابَ على مَن قضوا نحبَهم بل اعتبار موتهم معراجا للحقّ في حياة كريمة. هذا نصّها:

بني وطني يا ليوثَ الصّدام و جندَ الفدا

نريد من الحرب فرضَ السّلام و ردَّ العدا

لأنتم حماةُ العرين أباة

نشدتم لدى الموت حقَّ الحياة

مدًا و مدَى و كنتم تريدون سُبْلَ النّجاة

و رُسْلَ الهدى

أردنا الحياة و رُمنا العُلا

و في حقّنا لا نخاف البلا

و من دمنا قد صبغنا رِدَا

رفعناه فوق البلاد لواء

فماس به الأفقُ حين بدا

فإمّا حياة و إمّا فلا

فلو كان للخصم رأيٌ سَدَاد

و عقلٌ يميل به للرّشاد

و يردعه عن ركوب الرّدى

لما اختار نهجَ الوَغَى و الجِلاد

و سالت هباءً دما الأبرياء

فإمّا حياة و إمّا فلا

و عن ثغر بنزرت نبغي الجَلا

فلسنا نعيش و نحيا سُدَى

فمغربُنا يا فرنسا غدَا

ينادي الجلاء، الجلاء الجلاء



اليوم مرّ أكثر من عشرة أشهر على ثورة الحريّة و الكرامة. ثورة أطاحت بعقدين و نيف من الجبروت و الاستبداد، ثورة تسير بتؤدة في طريق زلقة لتؤصِّل كيانَ التونسيّ الجديد، فماذا كُتِبَ فيها؟ و ماذا أنْشِدَ عنها؟ إنّي أهيبُ بأهل الأدب و الفنّ و الثقافة و الإبداع أنْ خَلِّدوا تاريخَ تونس و تضحياتها ففي عمر الأمم و الشعوب لحظاتٌ من ذهب وحده الإبداعُ يجعلها شعلة لا تخبو لتتّقدَ بها نارُ الإنسانيّة التوّاقة أبدًا إلى الحريّة.





dimanche 9 octobre 2011

في مائوية محمود المسعدي

بمناسبة مائويّة صاحب " غيلان " نشرتُ مقالا بجريدة "المغرب" اليوم الأحد 9 أكتوبر 2011 هذا نصّه

لم يكن المسعدي مثقفا
كان ظاهرة ثقافيّـة 


سال في محمود المسعدي ( حياته و خاصّة آثاره) حبرٌ كثير. فالرّجل لم يكن أديبا مثقّفا بل كان ظاهرة ثقافيّة، أصَّلَ لذاته كيانا في زمن 
صعب كان فيه التعليمُ متاحا لأبناء الحاضرة و حظ المُترَفين، إذ نبَغَ عقلٌ في قرية تازركة و كان المآلُ جامعة السوربون بباريس. لن أخوض فيما يعرفه الجميعُ و ما تعمّق فيه الأكاديميّون خصوصا ثلّة من أساتذتنا الأجلاّء كمحمود طرشونة و توفيق بكّار، لكنّني سأبرِّرُ و أعَلِّلُ سببَ قولي إنّ المسعدي كان ظاهرة ثقافيّة، فما أنا من هواة إطلاق الشعارات و لا الرّجلُ بحاجة إلى الألقاب و هو القامة الإبداعيّة التي يعلمها القاصي و الدّاني.

لقد انخرط المسعدي منذ حداثة سنّه في السّياسة حيث تحمّل مسؤوليّة التعليم في الحركة الوطنيّة ضدّ الاستعمار الفرنسي، كما تقلّد دورا قياديّا في العمل النقابي، ثمّ تولَّى وزارة التربية القوميّة و أسّس الجامعة التونسيّة و أقرَّ مجانيّة التعليم لكلّ طفل تونسي، ثمّ تولّى وزارة الشؤون الثقافيّة و أنهَى حياته السياسيّة رئيسا لمجلس النوّاب. فهل كان طيلة هذه المسيرة رجلَ سياسة فَجًّا بيروقراطيّا ؟ هل شغلته دواليبُ السياسة عن مَنزَعه الإبداعيّ ؟ لا ، لقد كان مَسكونا بهاجس الثقافة و كان يُؤمن أنّ الأمّة لا تتغيّر بمرسوم سِيادِيّ بل بعقول تنيرُها المعرفة و الثقافة. كذا كان له نشاطٌ وافرٌ في منظّمتيْ اليونسكو و الأليكسو و في مجمع اللغة العربيّة بالأردن، و كذا أشرف على مجلّة " المباحث " ثمّ على مجلة "الحياة الثقافيّة" ، و كذا ترك لنا زبدة فكره و إبداعه في مؤلّفاته الخمسة. و كم كان شبيها ببطله "أبي هريرة" تنتقل به تجاربُه من بعثٍ إلى آخرَ فكان دائمَ الاستعداد للرّحيل خوضًا للمغامرة الوجوديّة، و لكلّ تجربة حيرتُها و مخاضُها فجاءَ أدبُه "مأساة أو لا يكون" ثمّ كانت الخاتمة معراجا، ظمأ إلى المعرفة و الحقيقة تـُطلَبُ فتـُدرَك. هذا المسعدي رجل السياسة الذي لم يُغيِّب الثقافةَ عنه قولا و فكرا و ممارسة، فأين كانت المسألة الثقافيّة من النّظام الذي حكم البلادَ أكثر من عشرين سنة ؟ و أين هو الملفُّ الثقافيُّ في برامج الأحزاب الرّاكضة اليوم إلى السّلطة ؟ متى سيُدركُ ساسةُ المستقبل أنّ تهميش الثقافة هو أوّل مسمار يُدَقّ في نعش الأنظمة الكليانيّة و أنّ الدكتاتوريّات التي طمست الثقافة و أعلامَها، و نَصَّبَ رموزُها أنفسَهم آلهة للشباب بعد تجهيله بإغلاق مصادر الثقافة في وجهه مَنعًا أو تمييعًا، قد سَعَتْ حثيثًا – دون عِلم- إلى انتفاض الشعب عليها لأنّ طبيعة الشباب ترفض " المثال المفرد " الذي لا يزول. و تلك كانت نكبة نظام بن علي، أفلا يتّعظون ؟

ليست الثقافة فلكلورا لأوقات الفراغ، و لا أفيونا للمُعدَمين، و لا فـُتاتًا لإلهاء المُبدعين يُذرَى لمَن رضيَ أن يُسبّحَ بحمد البلاط و يُمنَعُ عمَّن حَرَّرَ فكره و إرادتَه من ذلِّ المادَّة. إنّ الثقافة هي الشّريانُ المُغذّي لكلّ نقلة حضاريّة، لذلك قلتُ في البدء إنّ المسعدي كان ظاهرة ثقافيّة بل لعلّي لا أجدِّفُ بعيدا إن اعتبرته أيقونة، نعم أيقونة ثقافيّة. و يومَ يصيرُ رجلُ السياسة التونسيّ مؤمنا بالثقافة كضرورة حيويّة و مشروعٍ حزبيٍّ  حينها فقط يمكن الحديثُ عن هبوب رياح الثورة في العقول قبل الشوارع.





vendredi 23 septembre 2011

الجُوعُ صناعة بشريّة و نـُدْرَة المَوَارد خرافة

يُوجَدُ في العالم ملايين الجائعين أو ممّن يُعانون من سوء التغذية و هذه حقيقة لا مِرَاءَ فيها ، و لكنّ تشخيص الجوع بأنّه نتيجة لنـُدْرَة الغذاء و الأرض و لوْمٌ للطبيعة فهذا من صُنع البشر.فالجوع يُوجَدُ غالبًا مع الوَفرَة و لا أساسَ لفكرة أنّه لا يُوجَدُ من الغذاء ما يكفي للجميع. فالموارد موجودة بشكل كافٍ و لكنّها تعاني دائما من قلـّة الاستخدام ممّا يجعل الجوع قدَرَ الأغلبيّة و التـُّخمة حظّ الأقليّة . فطبقا لدراسة أعدّها علماء بجامعة إييُوَا ، فإنّه لا يُزرَعُ سوى 44 في المائة من الأراضي الصّالحة للزراعة في العالم . و في إفريقيا و أمريكا اللاتينيّة ، لا يُزرَعُ سوى أقلّ من 25 بالمائة من الأراضي التي يمكن زراعتها . و العقبات أمام تحرير الطاقة الإنتاجيّة للأرض ليست في معظم الحالات طبيعيّة بحتة ، بل سياسيّة و اجتماعيّة بالأساس . ففي 38 بلدا من البلدان التي تعاني من الجوع يسيطر كبار المُلاّك على نحو 79 بالمائة من الأرض المزروعة دون حسن استخدام الثروة الناتجة .إذ كثيرا ما يُسَاءُ توزيعها بتحويل مَسَارها من تلبية احتياجات الغذاء الأساسيّة للفقراء إلى إشبَاع المُتـْرَفين . و أمام تفاقم الغلاء و انهيار المقدرة الشرائيّة ، تتحوّل الاستثمارات إلى خدمة القادرين على الدّفع أي الطّبقات العُليَا المَحَليَّة و الأسواق الخارجيّة
و هكذا ، فحين تخضعُ طاقة الأرض الإنتاجيّة الهائلة لسوء الاستخدام و لتوزيع غير عادل للثروات، و حين يُسْتنزَفُ الإنتاج بصورة متزايدة لإطعام جَيـِّدِي التغذية أصْلا ، فلا يمكن اعتبار النـُّدْرَة سببًا للجوع ، فالجوعُ حقيقيٌّ أمَّا النـُّدرَة فـوَهـْمٌ
و في الختام ، أقدِّم رقميْن فقط
فقد فاق عدد الجائعين في العالم 845 مليون شخص أغلبهم من الأطفال
و يموت كلّ يوم 6 آلاف طفل من الجوع بمعدّل طفل كلّ خمس ثوان
و السؤال الذي يعود مجدّدا إلى السطح هو: هل المديونيّة حلّ ؟ هل يمكنّنا التداين من القضاء على البطالة و يفتح آفاق استثمار جديدة؟ 
يمكن أن يجوز هذا لو كانت السياسة الماليّة و الاقتصاديّة عموما سياسة وطنيّة تخدم صالح البلاد و الشعب ، أمّا و الدولة تثقل كاهل البلاد عاما بعد عام ليزداد الفقر و البطالة و تتردّى المقدرة الشرائيّة للمواطن إلى الحضيض و تتّسع الهوّة بين المُترَفين و المُعدَمين، فمديونيّة جديدة لن تكون سوى ضربا من الاغتيال الجماعي للشعب
بقيت مسألة أخيرة، إنّ أيّ هيكل مؤقّت غيرُ مؤهَّل لاتّخاذ قرارات مصيريّة و طويلة المدى حيث يتوجّب على الهيكل المنتَخَب بعده أن يلتزم بها ضدّ إرادته. و عليه فإنّ الحكومة المؤقتة مدعوّة إلى عدم إغراق البلاد في تداين جديد لن تكون حاضرة طيلة السنوات القادمة لتحمّل تبعات سداده و فضّ المشاكل المترتّبة عنه، و إنّ تتسلّم الحكومة المنتخَبة الجديدة بلدًا غارقا في الدَّيْن و شعبا مُرْهَقا فقيرا عاطلا فذلك سيكون أولى أسباب إجهاض نجاحها و هذا ما لا يرجوه أيّ تونسي حُرّ  

jeudi 1 septembre 2011

ميزيريا 7: من لا عيد له


العيد ... كلمة كانت تلمع، تضوّي، تبرق في عينينا و عقولنا       و قلوبنا وقت الّي كنّا صغار. يبدا الجوّ الحفالي قبل العيد بجمعة ، و يبدا العدّ التنازلي و احنا نحسبو في الايّام الّي ماعادش تتعاود ، الدّار تتحوّل لورشة كبيرة ، كلّ واحد لاهي في حاجة . بعد شقان الفطر، يكثر الحديث و المطالب و الوعود و الوالد يولّي فيه العسل ، كلّ واحد منّا شنوّة المطلب متاعه – رغم الّي عمرنا ما اعترضنا على حاجة شراها لنا ، يمكن على خاطر ذوقه كان فوق مطالبنا- ماكنّاش مشغولين بيه كيفاش باش يلبّي طلباتنا و طلبات الدّار الكلّ ، ما كنّاش لاهيين بتعب الوالدة الّي نرقدو نخلّيوها تقضي و نقومو الصباح نلقاوها تقضي، كلّ الّي كان يهمّنا تتشرا لنا حوايج جديدة و تجي خالتي خديجة حلاّلة الحلوّ تعمل لنا البقلاوة و تبدا الصّواني فوق الرّوس ماشية جاية للكوشة و احنا كالقطاطس نحبّو نذوقو ، و نحبّو نقيسو حوايجنا و صبابطنا...     و قبل العيد بنهار يمشي الوالد و معاه لولاد لعمّ الصّادق الحجّام، و كي يروّحو نستقبلوهم بعبارات التهاني و الصحّة، في الليل ما نرقدوش إلاّ ما نطمانو على جوايجنا بحذانا، نغزرو لهم و نحلمو بغدوة.



صباح العيد ، نفيقو ساريين ،نعيّدو على بعضنا، نفطرو بالتلحليح و نلبسو حوايجنا و ناخذو المهبة ، و تطوال علينا الدقايق حتّى يأذن الوالد بالخروج ، وقتها يشري لنا اللعب و يصوّرنا و تبدا الدّورة على العايلة من باب سويقة للحلفاوين لقرطاج بيرسا و في كلّ دار يغصّبو علينا الحلوّ، البعض منّا لعبته تتكسّر قبل ما يطيح الليل و البعض منّا يلمّ مهبته الكلّ و ما يشري بيها شيء، و نتلاقاو بصغار العايلة و نلعبو و نضحكو و نحكيو و نحوّسو في وسط البلاد، في السهريّة تتلمّ الأقارب الكلّ في دار ممّاتي و تتعدّى أوقات ممتعة و البعض منّا يهزّه النّوم مالتّعب. كان أمتع الأجزاء في العيد هي شرا الألعاب مالحلفاوين ، و ركوب القطار الأبيض و الفرجة على البحر، و المبات في دار ممّاتي في بيرسا.






إلّي كتبته إلى حدّ الآن يتنافى مع العنوان، نعرف. و ما نحبّش نطيح في مقارنة من غير فايدة و لا نقعد نتحسّر على الماضي، زايد ... كنت باش نكتب في ميزيريا 7 علّي ما عندهمش عيد، صدمتني التصاور هاذي و لقيتها تعبّر خير من ألف تدوينة. كلّ الّي باش يتكتب بعد التصاور هاذي نعتبره متاجرة بمعاناة النّاس  و البلاد، هذاك علاش حلّيت شبّاك على ذكريات سعيدة في العيد  و قلبي يتألّم للّي لا عنده عيد و لا ذكريات و لا حاضر




vendredi 19 août 2011

حكاية المعلّم الآخَر



          وقفتُ في شرفة بيتي ساعة الغروب أتأمّل القرية و النّهر يشطرها قسمين و يمضي هادرا إلى القرى المجاورة. لم يكن لديَّ أولاد، فاصطحبتُ زوجتي و استأجرتُ مركبا سلك بنا النهرَ و جئتُ إلى هنا طلبًا للعلم مع زمرة من المُريدين الذين شدّوا الرّحال من أقطارهم البعيدة لنجلس إلى معلـِّم ذاعتْ شهرته. و لعلّي خشيتُ فيضانا يُهلكني في سبيل العلم و المُعلّم فلجأتُ إلى شراء هذه الأرض المرتفعة حيث أنشأتُ بيتا و دكّانا عملتُ فيه إسكافيّا بعد أن كنتُ مُعلـِّم صبيان، ومَن سيعهد هنا بصبيِّه إلى غريب قدِمَ استزادة للعلم؟ فلذتُ بحرفة حذقتـُها في صغري. أمّا زوجتي فكانت أوفر منّي حظا ، لقد تزوّدتْ للرحلة بعطور أبيها و عرضتها على نساء القرية فلاقتْ بينهنّ رواجا فقايضتهنّ بها قمحا و زيتا و توابل و بقولا ، و باتت تبيعهنّ إيّاها حين اطمأنّتْ على مؤونة الشتاء. ثمّ نفد ما جلبته فصارتْ تنتقي من الحشائش و الزهور اليانعة على ضفتيْ النهر ما تدقـّه و تخلط بعضه ببعض للحصول على روائح جديدة ، تصيب مرّة و تخفق مرّات و تـُطلق على عطورها أسماء تحرّك في القرويّات ما أخمده الدّهر فيُقبلن في شغف على بضاعتها حتّى غدتْ للقرية عطّارتها. كانتْ تذكّرني و هي عاكفة على أوانيها و عقاقيرها بقهرمانات تدمر القديمة، و يروقني إصرارُها. ثمّ بدأتُ أضيق بقنّينات العطور يزدحم بها البيتُ الذي صار مقصدا للنّساء كامل ساعات النّهار، و لم ينجُ محيطه من شبّان يأتون للتسكّع و مراودة الفتيات ، بل كان بعضهم يقف بباب البيت ليقتني عطرا يهديه لصبيّة عَلِـقـَها قلبُه .. لزمتُ دكاني و صرتُ أقضي فيه الليلة ثمّ الليالي و لا أدخل البيت إلاّ لماما، غير أنّي في الحقيقة كنتُ أغبطها على نماء تجارتها و كساد حرفتي فالقرويّون هنا نادرا ما يرتقون نعلا أو خفـّا، أمّا نساؤهم فيرتدين أحذية بسيطة ينتصب بها يومَ السوق تاجرٌ متجوّل، كانت حِليَتهنّ في المواسم و الأعياد و يكتفين بالخفاف سائر الأيّام .. رضيتُ بكسبي القليل و انصرفتُ إلى الدّرس غير مبال بتعجّب زوجتي يبلغ أحيانا حدّ الامتعاض غير أنّها سرعان ما تجد سلوانا في تجارتها فتكفّ.

          لمحتُ مُعلـِّمي قادما فأدركتُ أنّه ما قصدني تلك الساعة من المساء إلاّ ليضنيني بسؤال ثقيل و ذاك كان دأبه إذا رام بحث موضوع بعد الدّرس، يزور أحدَ طلاّبه ليلا فيُلقي عليه مسألة     و ينصرف ، ثمّ يُثيرها متى لقيناه في حلقة الدرس فنتحاور دون أن يتدخّل ، حتّى إذا سكتنا و التفتنا إليه ، قال قوله. نزلتُ من الشرفة ركضا للقاء شيخي ، قبّلتُ كتفه و مهّدتُ له مجلسا مريحا في غرفة الضيوف فأباه و آثر مقعدا من الخيزران أمام دكّاني ، رفع بصره إلى السماء بدأت تظلم و صمت برهة، و ما كان أحدٌ يجرؤ على إخراجه من صمته ، ثمّ التفت إليّ و قال : " أيّ الأمريْن أشدّ على النفس، الكذب أم الظلم ؟ " لم يكن سؤالا بل مسألة و الجواب العاجل حمق، فالتزمتُ الصمت. تبسّط إثر ذلك في محادثتي يستفسر عن أحوالي و مهنتي و أخبار القرويين معي .. و امتدّ بنا السّمر إمتاعا حتّى نهض و انصرف مطمئنّا سعيدا بحيرتي.                                                       انقضى من الليل أكثرُه، بلغني من داخل البيت صوتُ زوجتي في غنج بغيض " أ لن تأوي إلى فراشك؟ أما سئم ذاك الشيخُ الثرثرة بعد ؟ " فلم أردّ و انزويتُ في ركن من البيت أفكّر و أرقب اندلاع الفجر.
                                                                                                بحثتُ عن معلّمي نهار الغد في القرية فلم يظهر، زرتـُه مساءً فلم أجده، رجعتُ إلى بيتي متوتـّرا مهموما فاستقبلني إناءُ ماء تطفو على صفحته بعض بتلات بنفسج و حذوه صابون و ملابس نظيفة، فهمتُ رسالة زوجتي فتركتُ لها البيتَ و أمضيتُ الليل تحت شجرة الكستناء. عدتُ إلى معلّمي عندما تحرّر الضياء و قرّرتُ ألاّ أبرح حتّى ألقاه، فإذا به يُرسل إليَّ خادمه " يقول لك سيّدي ليس كلّ برّاق معدنا نفيسا، ترَوَّ و انتظر موعد الدّرس. آسف سيّدي، عليَّ إغلاقُ الباب كما أمِرتُ. "

          يغيضني استخفافُ معلّمي بي ، شدّتـُه عليَّ أحيانا أهوَنُ من رفقه، فرفقه مسموم، تشوبه الاستهانة بعقل سريع العطب. كان يُحرجني بالعسير دون سائر الطلاّب فإذا عجزتُ، ضحك بخيبة أحسُّها و أتعذب، و إذا استثارني أمرٌ و لحظ حماسي و إقبالي، أعرَضَ عنّي فأشتعل حنقا. كنتُ إذا غضبتُ غضبَ أكثر منّي فأعتذر إليه صاغرا ، و متى تمارضتُ استدرارا لعطفه تجاهلَني ، و قد أقاطِعُه يوما أو يومين فيُقاطِعُني حتّى أؤوب إلى حلقة الدّرس ذليلا و أجلس بين الطلاب صامتا فلا يسألني عن سبب غيابي بل لا يحفل بعودتي ..  كان يُراودني أحيانا شكّ أنّ معلّمي شرّير يتلاعب بالعقول، حتّى إذا بلغتْ ثورتي ذروتها وصلني منه ثناء يخمد حنقي و يبدّد شكّي، فأحبُّه و أطيعُه.
ليته يغيّر معاملته كي لا أراني ثورا مشدودا إلى ساقية ، مازال يستأثر بطرح المسائل، هو من يُوجِّه و من يُصوِّب فمتى أستقلّ بفكري؟ متى أتمكّن من محاورته و الدّفاع عن رأيي دون الوقوع في خطإ يجعلني أخجل بجهلي؟ متى أصيرُ قادرا على إقناعه فيدعوني إلى التفكير معه؟

          أرّقتني هواجسي فبتُّ الليل أذرع البيت، سمعتُ زوجتي تقول:" ما كان لأهل العلم أن يتزوّجوا فلا عضو في أجسادهم يعمل سوى العقل." و تضيف في تهكّم مقيت " عِلمٌ في منتصف العمر." أثارني تعقيبُها غير أنّي كنتُ منشغلا بمسألة المعلّم و لم أطمئنّ إلى ما توصّلتُ إليه فرأيتُ أن أختبر الكذب و الظلم عَلـِّي أصيب بالتجربة يقينا. عمَدتُ إلى قوارير زوجتي فحطّمتُها جميعا       و أرَقتُ عطورها على أرضيّة البيت و أتلفتُ كلّ بضاعتها، ثمّ اقتحمتُ عليها غرفة النّوم، غازلتُها بكلام لم تسمعه منذ اقترنّا ، داعبتُها ، مدحتُها بما ليس فيها ، و بسرعة لم أتوقّعها لانتْ بين ذراعيَّ   و تراختْ قسماتُها و تهدّج صوتها فصارتْ كقطعة عجين طال اختمارُه حتّى فاض عن الإناء. أخذتُها مغمَض العينين ثمّ نهضتُ عنها و غادرتُ البيت.

          فرغ معلّمي من إلقاء درسه و أومَأ إليّ بطرح المسألة ففعلتُ ، و انطلق حوارٌ بين الطلاب لم أشاركهم فيه ، ثمّ سكتوا و التفتوا إلى المعلّم فلم آتِ صنيعهم و فهم المعلّم أنّ لي رأيا فلم ينطق. قلتُ : " إنّ في الظلم اعتداء، لكنّ المُعتدِي لا يُخفي عن الضحيّة قوّته بل يتباهى في تحدّ إلى نزال يكون فيه النّصرُ للأقوَى أو الأدهَى أو الاثنين معًا، أمّا الكذب فيحتمل الزّيف و الظلم  مجتمعين، فالكاذب يبخس قدرَ غيره في التدبّر و يبخس قدرة ذاته على الإقناع إن هو قال الحقيقة و في الحالتين يظلم ، و الرّذيلة التي تنوء بشرَّيْن أثقل على النفس من تلك التي تحمل شرًّا واحدا."
ساد صمتٌ ... " علامَ اعتمدتَ في جوابك هذا؟ " قال معلّمي و قد علتْ وجهَه ابتسامة ما عهدتُها.   قلتُ " على تجربة خضتُها و سأخبرك بوقائعها متى ضمّتنا خلوة. "
غادر الطلبة و بقيتُ . دنا منّي معلّمي حتى تلامستْ ركبتانا و ما ألِفتُه يترك مجلسَه في الصّدارة     و إنْ انقضَى الدّرس، رويتُ له ما حدث مع زوجتي و كيف توصّلتُ إلى أنّ الكذب أنكَى من الظلم   و أشدّ قدرة على تجريد الإنسان من كينونته.

          قال : " مادمتَ قد بلغتَ حدّ دعم المعرفة بالاختبار و لم تعد قانعا بالتلقِّي مطمئنّا إلى التخمين ، فهذا فطامُك ، اليوم فراق بيني و بينك. "

          أغلقتُ الكتابَ و أعدتـُه إلى رَفِّ المكتبة و سحبتُ مُعلـِّما جديدا و جلستُ إليه.

vendredi 12 août 2011

مدوّنتـك صاحبتـك

وقت الّي تحلّ مدوّنة كاينّك عرفت صاحبة جديدة ، ما تعرف عليك و ما تعرف عليها شيء
العام الأوّل : نافح مغروم تقابلها كلّ يوم ، عندك برشة كلام تحبّ تقول لها ، تاريخك ، ذكرياتك ،أذواقك ، أفكارك ، مواقفك ، فلسفتك في الحياة و النّاس ... ماذابيك تورّيها أحسن ما عندك ، و تزيد تغلّف هذا الكلّ بمسحة متاع رومانسيّة ، و إلاّ بنزعة واقعيّة صادمة ، و إلاّ برزانة أكاديميّة ، و إلاّ بروح النّكتة و الهزل ، إنت و صاحبتك شنوّة الّي يشدّها ليك أكثر. المهمّ تولّي دنيتك الجديدة الّي تشغلك على روحك و الّي دايرين بيك ، تخرج تجري من خدمتك باش تقعد قدّامها ، و تتعدّى السوايع و أنت معاها ما تحسّهمش

العام الثاني : توفى الحكايات الحلوّة ، تاريخك معروف و ذكرياتك كتاب مفتوح ، و مدوّنتك ماعادتش هاك الصاحبة الّي قلبك يرفّ في بقعته كيف يراها ، ولاّت كاينّها راجل صاحبك تقابلها مرّة بعد قدّاش ، كلّ ما تحسّ روحك فادد و عوج الدّنيا خانقك ، تحكي معاها على الواقع و الّي موش عاجبك فيه ... كلّ ما تزيد تقدام صحبتكم كلّ ما تولّي مقابلاتكم قليلة ، و تبدى تقلق تبدّل لها المنظر و الإخراج و تزيدها تناوش جدد كيف ما ماذابيك كان صاحبتك تبدّل اللّوك باش تراها بمظهر جديد ، و رغم التغييرات ، هي هي كلّ ما تقابلها ما تلقى ما تحكي لها إلاّ إذا ظهر موضوع قويّ صار عليك و إلاّ صار على البلاد و النّاس الكلّ لاهية بيه ، وقتها ، تولّي تصطاد في المواضيع فمّاشي ما ترجع تتحدّث مع مدوّنتك كيف قبل . ساعات ، تكتب تدوينة و ما تنشرهاش بالضبط كيف ما يبدى حديث يدور في راسك قبل ما تقابل صاحبتك و كيف تتقابلو  تسكت و تقول زايد ، حديث فارغ و أنا ماكنتش هكّة نقشقش في الحكايات الفارغة . بالشويّة بالشويّة حتّى يوفى الحديث الكلّ و تلقى روحك تتفرّج ساكت رغم اللّوم و الحنين لكن بالحقّ حكاياتك وفاو ، و إلاّ طاقتك للحديث وفات

في العام الثالث : كانك ترى بالعشرة ، ما تسلّمش ، تقعد تطلّ على صاحبتك حتّى مرّة في الشهر ، تفرهدها بحكاية خفيفة ، و ساعات تحلّ مدوّنتك و تقعد تغزرلها ، و إلاّ تتصفّح في حكاياتك القدم . و ساعات تبدى تتفرّج في المدوّنين الّي مازالو كي دخلو على صحبة جديدة و تبدى عامل كيف على غرامهم و حماسهم للحديث ، حتّى كان تحدّثو على موضوع كنت أنت حكيت فيه قبل ، قلبك ما يعطيكش باش تكسّر لهم جوانحهم و تقول لهم هذا حكيت فيه أنا قبلكم ، حرام تفسّد لهم عشقة عاملين بيها جوّ . المهمّ صحبتك أنت مع عزوزتك ما تتقطعش على خاطر بعد العشرة صعيب باش تعمل صحبة أخرى و تعاود حكاياتك من أوّل جديد

إذا فتّ العام الثالث :مدوّنتك تولّي قطعة منك ، كيف العشيرة الّي تفهمك عالرّمش ، حتّى كان تتقابلو مرّة بعد قدّاش ، حتّى كان حديثكم قليل ما يفوتش قصيدة شعر و إلاّ كلام خفيف على أحوال الدنيا و شويّة ذكريات حلوّة ، يكفي أنّكم تتلاقاو و تسألو على بعضكم و تشوفو رواحكم في حكايات العشاق الصّغار، و تسمعو حديثهم ببرشة حبّ و وسع بال

هذه تدوينة حبّيت نهديها ليلة عيد المرأة لكلّ مرا مخلصة حرّة    و لكلّ راجل يرى بالعشرة    

dimanche 24 juillet 2011

الخـبزيســت


دخل البطلان مطعما أجنبيّا فاخرا و جلسا ، تصفّح كلٌّ منهما قائمة الطّعام فلم يفهما اللّغة . قال الرّجل لصديقته " اطلبي الطبق الأغلى ثمنا ، من المؤكّد أنّه الأفضل. "  أشارت المرأة  للنّادل بإصبعها للأكلة الأعلى ثمنا ، و أومأ إليه البطلُ بأنّه يريد نفس الطّبق . غاب النّادلُ قليلا ثمّ عاد بالطّلب و قال بلغة يفهمانها :" تفضّلا ما طلبتما ، الخبز. "   خبز ؟
نعَمْ ، الخبز. و خبز حاف و بأعلى سعر، ذاك مآلُ من يدخل مكانا لا يفهم لغة أهله ، و من يتخيّل أنّ الثراء ينوب الثقافة ، و من يتجاوز التواصل مع الآخر و لا يتقن إلاّ بهرج المظهر. و ذاك ما يمكن أن يصير مآلـَـنا  لو اكتفينا بالكلمات الأربع التي لم نحفظ غيرها منذ سنين و لو نزد ، و لم ننفتح على لغة جديدة في الحوار و التعاطي مع مستجدّات الثورة و ما تقتضيه من قبول للآخر مهما اختلف و خالف، و لم تقبل عقولنا التي دُجِّـنتْ  على يد رئيسين مدى أكثر من خمسين سنة فاعتدنا القائد الواحد و الحزب الواحد و الإعلام الواحد و التّأريخ الواحد و الثقافة الواحدة ، و اعتدنا من يفكّر بدلا عنّا و من يرتئي لنا الحلول - و هو الذي وضع قبلها المشاكل - و من يتكلّم بحناجرنا و  يرى بأعيننا و ينتخب نفسه نيابة عنّا

لذلك ثرنا . كي نكون ، كي نعبّر بحُرّ أصواتنا ، كي نختار بمحض الإرادة فينا ، أفنترك دار لقمان على حالها بعد أن قدّم الشعب ضريبة الدم ؟ أندفن رؤوسنا في الرّمل بيأس قائلين " لن يتغيّر شيء سواء انتخبنا أو لم ننتخب " ؟ هل سينزل علينا التغيير من السّماء ؟ أم نحن كما نحن دائما في انتظار معجزة و نحن قعود؟ أم لعلّنا نريدها مدينة فاضلة يطيب فيها العيش دون تضحيات ؟
 أنا سجّلت اسمي في القائمات الانتخابيّة ، و كذلك الشّأن بالنّسبة إلى أفراد عائلتي و جيراني و أصدقائي . سجّلنا برغم كلّ شيء برغم  زخم الأحزاب و خطابها السّياسي غير المقنع ، و برغم الانفلات الأمني ، و الحرائق المُدَبَّرة ، برغم غلاء المعيشة و تدهور المقدرة الشرائيّة ، برغم الاحتكار و الاستغلال و استمرار البطالة ، برغم البطولات الورقيّة و العنف و الاستفزاز ... برغم كلّ هذا و غيره سجّلنا
 
لأنّ الإحجام عن التسجيل سلبيّة و استقالة و السلبيّة لا تبني بلدا
حينها لن يبقى لنا إلاّ الخبز الحاف و بأعلى سعر
    

samedi 16 juillet 2011

أحنا عرب ما يعجبناش العجب

أحنا عرب ما يعجبناش العجب ، لا عجبنا الّي يفكّر و لا عجبنا المسَكِّرْ ، لا الّي يصلّي و لا الّي يسْكِرْ ، لا الّي هبط للشارع صاح و ندّدْ و لا الّي ورا حاسوبه لابِدْ و متردِّدْ ، لا عجبنا المتربِّي و لا عجبنا القبيح ، لا عجبنا الفريفطة و لا عجبنا الرّزين ، لا عجبنا الّي يقول و يعمل و لا عجبنا الّي يقول و ما يعملش و لا الّي لا يقول و لا يعمل ، لا عجبنا المستكفي بنفسه و لا الّي كي يشوف مصوّرة هو الاوّل يمدّ وجهه، كان كتبت و ما هبطّش للشارع نقولو هذا زعيم كان ينبّر ، و كان هبطت للشارع و ما كتبت شيء نقولو هذا وقتاش حدث ؟ عمرنا ما قرينا له كلمة
لا عجبنا الضّارب و لا عجبنا المضروب ، لا عجبنا المِسْتوِي و لا عجبنا المقلوب ، لا عجبتنا الهيئة و لا الّي في الهيئة و لا الّي خرج مالهيئة ، لا عجبونا ولاد المْدينة و لا عجبونا أهل الارياف ، كان تتكلّم توَلِّي تفتِّنْ و كان سكتت تتسمَّى خوّاف ، كان تحرّكو الصّغار نقولو مفرخ تتناقز و كان تكلّمو الكبار نقولو هزّ علينا هالكمشة عزايز ، لا عجبنا الّي يتكلّم بالدّارجة و لا بالفصحى ، أما الّي يتكلّم بالأجنبي هذاك يولّي ولد فرانسا ماسوني متصهين
حتّى على اسم الثورة ما اتّفقناش ، قلنا ثورة الياسمين قالو تسمية برجوازيّة ، الدمّ للرّكبة في داخل البلاد و أنت تقلّي ياسمين ؟ ، قلنا ثورة الحريّة و الكرامة قالو وين تشوفو فيها الحريّة و الكرامة ؟ يسخايلوها صبيغة مَلِّسْ اليوم تطلع غدوة و إلاّ هوما قاعدين و هي تتهدى لهم هناني بناني ، قلنا ثورة 14 جانفي قالو بالله يزّيوْنا من تأليه التّوارخ ياخي باش ترجّعولنا 7 نوفمبر ؟ قلنا ثورة البوعزيزي قالو استنَّى السّاعة نثبّتو فيه مات شهيد و إلاّ حُكمتْ له السِّكرَة
الله يسامح هالوقت كي خلَّى الّي يخنتب كليمتين و إلاّ يحضر في وقفة احتجاجيّة ولاّ ثنين يولِّي لي " ناشط حقوقي " و يبدا عاد " استنّاوني اليوم في القناة الفْلانيّة .... هذا تصريحي للجريدة الفلتانيّة ... " ههههه بالله قولو للنّاس هاذم يعملو طلّة على النّاشطين بالحقّ في البعثات الأمميّة للإغاثة في الصّومال و في أفغانستان و غيرها ، و يشوفو نساء و رجال خلاّو عايلاتهم و بلدانهم و مشاو ساكْ على ظهوراتهم و هوما من دشرة لدشرة ياكل فيهم الذبّان و القمَل و الكرتوش يخيّط و ساعة ساعة يتخطف واحد منهم و إلاّ يتقتل . علاش ما نجّموش نكتبو و نحتجّو و نتظاهرو و نتضربو كان لزم و احنا باقي في صفوف الشعب ؟ لازم نمرضو بعقدة البروز و نولّيوْ أحنا الصّحاح و غيرنا الكلّ غالط و ما عاد يعجبنا شيء ؟
أما حَدّ ما عليه بلوم ، اللّوم الكلّ على آش و خمسين سنة سَحْق و مَحق للشخصيّة ، من " المجاهد الأكبر" لـ " صانع التغيير " ديما فمّة منقذ يفكّر في بقعتنا و يتكلّم في عوضنا و الّي بلا بيه راهو كلانا الحافر و مشينا بذرور ، أكاهو كي جات الفرصة و تحَلّ اللّعب النّاس الكلّ تحبّ تولّي كلّ شيء ، ثوريين مولتي سيستام ، و نساوْ الّي في كلّ ثورات العالم فمّة الّي ينظّرو و يكتبو و يدَّنّاوْ لتالي و هاذوكم الّي يتسمّاو الآباء الروحيين للثورات و فمّة القادة الّي تتوفّر فيهم كاريزما تأهّلهم باش تلتفّ حولهم الجماهير، يتأثّرو بتنظير المفكّرين و يطوّعوه للواقع و يخطّو للثورة إعداد و إنجاز و متابعة ، و فمّة أهل الميدان الّي بقعتهم الشوارع و السّاحات و هوما ذراع الثورة الفاعل ، حتّى واحد ما ياخذ مهمّة لاخر و لا يجي منّه يعمل كلّ شيء
العربيّة الفصحى لغة مقعارة برشة ، البارح عجبتني جملة بالانقليزيّة قالتها في فيلم ممثّلة لصديقها حاولت نترجمها هكّة : إذا كانت أفكارك تدلّ حقّا على مستواك الذّهني فإنّي أعتبرك محظوظا لكونك لا تزال قادرا على ربط شريط حذائك

و سلام

vendredi 8 juillet 2011

دَعْـــــــــنِــــــي

دَعني أكون بقربكَ ساعة نومك
و أرقُبُ في ريبة رَفَّـة جفنيك
و اظطرابا بشفتيك
إذا حامَ لامرأةٍ غيريَ طيفٌ بحُلمك

-------------

دعني أهيِّئ لكَ من الياسمين سريرا
أبيضَ ... أبيض بلون الخيانة
و أرْخي بوجه البدر كلّ السّتائر
كي لا يَرانــا
و أسكبُ في كأسكَ اللؤلئِيِّ نبيذا و كوثرْ
و أختِمُ جيدي خُزامَى و عنبرْ
و أدْنُو ... فتنفــرْ
و يُؤذيك عطرُ الحدائق و ضَراوَة مَرْمَرْ

-------------

و دعني أشاهد طقوسَ اغتسالك
و أروِي عن النّشوة العابره
إذا حاوَرَتْ غُلّتَـكَ المياهُ الفاتِره
فتذوِي في صمتٍ كنيران الغَجَرْ
سأنقلُ غدرَكَ للموجة الثائره
حبيبتي ... كنتَ تقول عنها ، و عنّي
فكمْ من حبيبةٍ لكَ أوْدَعْتَها مُتحَفَ الذّاكره

-------------

دعني أجالسكَ عند مخاض الكلمات
و لأكُنْ صرختَكَ الأولى
بعد انقباض الانكسارات
قبل أن يمتصَّني النّسيانُ
فوق صفحة الإهداء
لتُعربدَ ليلى و زينب
و أضيع في متاهة الأسماء

--------------

في مثل هذا اليوم أحببتُك
هل يمكن أن نختار تاريخَ الهزائمْ
و هل اخترتُ ميلادي و موطنَ نشأتي
و أهلي و تنظيمَ المواسمْ
فدعني أعَلِّمُ قَدَري المشيَ بمفرده
في مواكب حرمان المُحبّين
نحو آخر أنخاب المآتمْ

------------

حريَّتي كأسي و صمتي و جنوني
فدعني
أصدِّق فيكَ أحلامي و ظنّي
و أنسج من فنّ الغياب خرافات القداسة
أيا أقسَى و أشهَى عذاباتي و حزني
و يا رجُلا عشقتُه منذ ألف عام
قبل اللّقاء و فوق التمنِّي

دَعْنِــي

lundi 27 juin 2011

تتفَــكِّـــــــــرْ ؟؟؟

تتفكّر ؟ ...
تتفكّر كيف كنّا جْميعْ ؟ يتعدَّى علينا خريف و ربيعْ ، العين عاشقة و القلب حنينْ ، تتفكّر كيف كنّا ثنينْ ؟ بمحبّتنا هاربينْ و على حريّتنا خايفينْ ، عْشانا حكاية و ضحكتينْ و سهريّتنا شِعر و موزيكا و كاسينْ ، تتفكّر كي توسّدت " البيان و التبيين " و أنا حطّيت راسي على صدرك ... كيف كان حنينْ
تتفكّر ؟ ... تتفكّر كيف كانت دموعي ما تجري كان بين يديك        و أنت تقلّي نحبّ الّي يبكّيكْ باش ينوّرو خدّيكْ و نشوف نجوم الليل في لون عينيك
تتفكّر ؟ ... تتفكّر كتاب قريناه ، و كلامُه بصواتنا سمعناه ، و ليل قصارْ و طوِّلناه ما بين آهْ و اللهْ ... تتفكّرْ البحَرْ الّي حبّيناه و الحلم الّي حلمناه و الهَمّ الّي على بعضنا دَرِّقناه
تتفكّر ؟ ... تتفكّر كيف نقلّك تعبتْ و مَلّيتْ ، جْريتْ و ما لقيتْ ، عطيتْ و ما خذيتْ ، كنت تقلِّي الوردة الفوّاحة تخَلقِتْ باش تعَطِّرْ الّي دايِرْ بيها و نهار الّي تذبل في الكتب نخبّيها و ما نسلّمْ فيها
تتفكّر العالم الّي عشقناه ، باحلامْنا رسَمناه و بقلامْنا على وراقنا كتبناه ، حبّيناه و تمنّيناه ، و ستنّينا و ما أيِّسْناه ، و كي بدا يظهر جرينا وراه و صدّقناه ...
تتفكّر ؟ ... تتفكّر كيف كنت نقلّك بلا بيكْ نكرَهْ روحي ، تفيق مْحايْني و تتحَلّ جْروحي ... أنت اسْبابي ، هبْلتي و عذابي ، حبّيت بيك دنيتي و صحابي
تتفكّر كي قـُـتلي آمنتْ بيك ، خَلِّي حرفك على ورقتك يَحكيكْ ... اكتِبْ خَنتِبْ ... اصدَق اكذِبْ ... عبِّرْ و ما تهربْ
تتفكّرْ ؟ ... تتفكّر كيف كنّا واحِدْ ، قلبي على قلبك و الحُبّ شاهِدْ    و الكاس شاهد ... و البحَرْ شاهِدْ ... و القلم شاهِدْ ... و الليل شاهد و المطر شاهد ... و أنت شاهِدْ.
تتفكِّـــرْ ؟

اللّوحة بعنوان " ليلة ذات نجوم " للرسّام فنسون فان غوغ