انتهت مرحلة عربيّة و قد تميّز فصلُ الختام بالتخلّص حتّى من المظهر الايديولوجي." هكذا بدأ د.عزمي بشارة مقالا له تحت عنوان " بداية النهاية" نشره المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات بتاريخ 17 جانفي 2011 . مقالٌ توقّفتُ عنده طويلا ، وسط زخم ما كُتِب و يُكتَب عن ثورة الأحرار في تونس ، أوّلا لأنّه من خارج المشهد و ثانيا لما تميّز به من تحليل هادئ متعقّل فهو على حدّ تعبير بعض الأصدقاء : كتابة أنيقة لأحداث عنيفة
نعم انطلقت ثورة تونس بانتفاضات خبز محليّة ظهرت في الجنوب منذ سنتين و جوبهت بالقمع و التعتيم الإعلامي رغم جهود المدوّنين و بعض الصحفيين الشرفاء لكنّ الانتفاضة الأخيرة التي اندلعت في سيدي بوزيد دامت و انتشرت في كامل تراب البلاد بفضل عناد الشعب الذي نزل إلى الشارع في خلع غير مسبوق للعجز و مواجهة الإذلال فصارت انتفاضة للكرامة و ليس للخبز وحده . في الشارع ، نعم كان الثمن باهظا لكنّ الحشود التي استنشقت الدم أو الغاز أو الحريّة ، سَمِّـهِ ما شئت ، أدركت قوّتها التي كانت في حالة كمون و صار وقفها شبه مستحيل . لأوّل مرّة يتكتّل الشعب و ينصهر : السكّير و المؤمن المثقف و الأميّ و الموظف و العاطل و الطالب و التلميذ و المسنّ و المرأة و الفتاة ... الجميع خرج في مطلب واحد و مطلب قويّ ليس استجداء، الجميع طلب أن " يكون " . لم ينتظر هذا الشعب أن ينظِّر له مثقّفوه و ليس لهذه الثورة أبٌ روحيّ بل العكس هو ما حدث فقد سار المثقّفون و الحقوقيّون و النشطاء السياسيّون بكلّ أطيافهم على خطى الشارع ، الجميع ثار على الاستبداد السياسي و انسداد الأفق و المحسوبيّة و الاستغلال و الفقر و الفساد و انهيار مجتمع الإنتاج لحساب مجتمع الاستهلاك و فقدان السيادة و التبعيّة للغرب و عدم احترام الذات البشريّة ... و طيلة الأيّام السابقة كلّها لم نسمع و لو مرّة واحدة كلمة " جهاد" و لم تـعْلُ " الله أكبر " إلاّ في مواكب دفن الشهداء ، هذا ما يجب أن يدركه مطرب الرّاب " بسيكو آم " و أمثاله و هو أنّنا لسنا في حاجة إلى التقهقر أربعة عشر قرنا إلى الخلف كي نحقّق كرامتنا و كينونتنا فالشعب بلغ نضجا ثوريّا دفعه إلى رفض القمع و الكذب و التسويف و سياسة الرّتق و خرج بكلّ عفويّة و لم يضع ثورته بين يدي قائد مرتشٍ طامع في السّلطة أو إمام فاسد ، هذا الشعب ملّ الشخصنة و أكذوبة المهدي المنتظر و ثقافة الرجل الواحد الذي بيده كلّ الحلول السحريّة
لقد شهد الشرق و الغرب المنبهران حدّ الذهول أنّ في المجتمع التونسي طبقة وسطى واسعة قويّة و نسب تعليم عالية و أنّه مجتمع متجانس لا يتحوّل فيه الخلاف إلى صراع طائفيّ ، و أثبت شبابُ تونس فتيانا و فتيات أنّه عكس كلّ ما رُوِّجَ عنه أنّه مائع استهلاكيّ ، بأن ضرب موعدا مع التاريخ و صار يتصدّر الصفحات الأولى في الجرائد العالمية و على وقعه تعيش القنوات التلفزية في بلدان العالم منذ ما يزيد عن الشهر، أمّا المدّ الافتراضيّ عبر الانترنيت فقد كان خير معاضد للثورة و رئتها الحيّة
و بعد ، قد تختلط الانتهازيّة بالمبدئيّة في كلّ وضع انتقالي إذ يحاول البعض الظهور بمظهر الناقد للنظام السابق و الرافض له حتّى زبائنه المستفيدون منه و هذا ما نراه و نسمعه في الآونة اخيرة و هو أمر منتَظَر طبيعيّ غير مزعج إلى حدّ كبير فالانتهازيّون يقفون دوما مع المنتصر و إلا لما كانوا انتهازيين ، المهمّ ألاّ يقطفوا ثمرة رواها غيرُهم بدمائه خاصّة أنّ لديهم الخبرة في التعاطي مع العمل السياسي و دراية بكواليس المؤسّسة . لذا وجب أن يُعقد اتّفاق فوريّ و حاسم على طبيعة المرحلة الانتقاليّة و النّظر الجادّ و الهادئ في المراحل القادمة لأنّ الفوضى الفكريّة لا تخدم الديمقراطيّة بقدر ما تخدم المندسّين
المجد للشعب و الخلود للشهداء