إنّ التطرّق إلى مفهوم الأدب في المجتمع التونسي يقودنا حتما إلى إثارة
مسألة النصّ المكتوب لدى مجتمعات المشافهة في العالم العربي الإسلامي. ذلك أنّ
"المكتوب" و من ثَـمَّ "المقروء" يحيلان على حقول دلاليّة
ثلاثة: أوّلها النصّ المقدَّس متمثلا أساسا في القرآن، فالحديث ثمّ كلّ ما تعلّق
بهما من نصوص ذات مرجعيّة دينيّة و منها آثار الصوفيين. هذا الحقل الدلاليّ الأول
أفرز ثانيا ماثلا في تلك الأشكال من التطبيب ذات البعد الوثني لإزالة الأمراض أو
سوء الحظّ و التي كان يمارسها ما لـُقّب "بالعَزّام" و التي تحوّلت من
الفعل الرمزي لاستقراء الغيب و هو ما عُرف "بحَلان الكتاب" إلى كتابة
الرُّقَـى و التمائم وصولا إلى أعمال سحر خبيثة. و أمّا الحقل الدلالي الثالث و
الأهمّ فهو تحرير العقود و هي نصوص منظِمة للزواج و الملكيّة و الوفاة و الميراث.
في مجتمع المشافهة حيث يكون الارتكاز على الشعر و القصّ و رواية تاريخ
الأنساب و الأحداث، تقتصر الحركة الفنيّة على طقوس الخطاب و التواصل في التجمّعات
البدويّة و هي ما اصطـُلحَ على تسميتها "الميعاد" أو في كنف حلقات
الرّواة في المقاهي الحضريّة و من ثَمَّ بروز ظاهرة "الفداوي"، إذ أنّ
تعلّم القراءة و الكتابة كان ضربا من الرّفاه لا يتأتَّى إلاّ لمن واتته الظروف
الماديّة. و كان الغرض من ارتياد الكتاتيب مقتصرا على تملّك المبادئ الأساسيّة
التي تمكّن صاحبها من أداء شعائر دينه أو تهجئة بعض الوثائق بغاية حسن إدارة شؤون
العائلة. و كان الجلوس للتدريس خاضعا لنظام عشائريّ حيث وحدهم أبناءُ
"الزّاوية" أو "الفـُقرة" هم المؤهَّلون. أمّا الحصول على
خطّة كاتب عدل فقد كان يتطلّب تضحيات ثقيلة لا قِبَل بها إلاّ للميسورين. كان
"التبحّر في العلم" الذي تضمنه المؤسّسات الكبرى كالزيتونة حضوة لفئة من
الأسر المتعلّمة و هي في الغالب ذات صلات وثيقة بالسلطة السياسيّة و الدينيّة في
البلاد، كذا تتوارث العائلاتُ خطط القضاء و الإفتاء و مشيخة الإسلام. و هذا ما
عمّق القطيعة صلب المجتمع التونسي بين ثقافة شعبيّة يمليها التراث و طقوس
التقليديّ و بين النّخب السياسيّة و الدينيّة المتعلّمة.
ما من شكّ أنّ ظهور تقنيات الطّباعة ساعد على التأسيس لعادات سماع جماعيّ
لدى الشرائح الشعبيّة في المدن إلى قرّاء الكتب المشهورة آنذاك كألف ليلة و ليلة و
سيرة عنترة بن الشدّاد و سيف بن ذي يزن و غيرها من المؤلّفات الشعبيّة المزدانة
برسوم لأبطال السّيَر حيث اختصّت بعض دور النشر في طباعتها و تسويقها بأثمان
زهيدة.
تلك كانت المحاولات الأولى لإدراك الذات و التي ستفرز إرهاصات الفكر
الإصلاحي حيث تتنزّل قضيّة الهويّة في مجابهة "الآخر" المهيمن متمثلا في
القوة الغربيّة من جهة، و خاصّة في مجابهة انهيار الدولة و مظاهر الخصاصة و عجز
النّخب و السلطة و الأفراد عن مقاومة "الدّخيل" من جهة ثانية. و تعود
جذور هذا الفكر الإصلاحي إلى أواسط القرن التاسع عشر مع كوكبة من شيوخ الزيتونة
لعلّ أبرزهم الشاعر محمود قابادو (1812-1871) و المؤرّخ أحمد بن أبي الضياف
(1804-1874) و محمد السنوسي (1850-1900) و محمد بيرم الخامس (1840-1889) و سالم
بوحاجب (1827-1924) الذين ألّف بينهم قاسم مشترك و هو توجّه إصلاحيٌّ يروم
الانفتاح على الحضارة الغربيّة مع الاكتفاء منها بما يتماشى مع روح الشريعة
الإسلاميّة. و يبدو للأسف أنّ المشروع الإصلاحي لخير الدين التونسي و إنشاء
المدرسة الصادقيّة جاء متأخّرا نظرا لانحطاط الدولة و إفلاس علاقات السلطة
المركزيّة سواء بممثليها أو بالرعيّة المسحوقة تحت الأحكام الجائرة. و حَلَّ
الاستعمار ليعمّق تبعيّة البلاد و فقر الشعب الذي وجد رموزُه أنفسَهم منعزلين قليلي
الحيلة تجاه محتلّ يملك من العدّة و العتاد ما يفوق كلّ اعتبار، فتفاقمت القطيعة
بين النّخب و المجتمع خاصّة النّسيج العشائري التقليدي في المناطق الداخليّة
للبلاد. و لم تأخذ هذه القطيعة في الاضمحلال إلاّ مع انبعاث "الخلدونيّة"
و "قدماء الصادقيّة" حيث كان الهدف المشترك للجمعيّتين هو مقاومة الجهل
قصد تغيير العقليّات، ناهيك عن جهود الزيتونة في محاولات الإصلاح إمّا بمناقشة
محتوى برامج الجامع الأعظم أو بإثارة موضوع الخصاصة التي يعيشها تلاميذه. في هذا
الخضمّ كانت مسألة اللغة العربيّة و الدفاع عنها كعنصر هويّة ضدّ الاستعمار نقطة
التقاء بين مختلف الاتّجاهات بغرض تشكيل قاعدة سياسيّة ثقافيّة و فنيّة أسّس لها
مؤتمر دام أيّاما خمسة ترأسه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور و أكّد على ضرورة
الاستقلاليّة الأدبيّة و قدرة اللغة العربيّة على التأقلم مع الحداثة. و رغم أنّ
الفكر الإصلاحي يستمدّ مرجعيّته من الثقافة الأوروبيّة فقد كان الهدف من التيّار
الدّاعي إلى بعث حركة صحفيّة و جمعيّات أدبيّة و فنيّة هو نشوء الخصوصيّة
التونسيّة انطلاقا من هويّتها اللغويّة و الدينيّة. و هذا ما أوقع نخبَ تلك الفترة
في حيرة بين جذورهم التقليديّة و بين تأثيرات المدرسة الفرنسيّة و الثقافة التي
تحملها، و كذلك تأثير قادم على مهل من الشرق الأوسط و خصوصا مصر. و قد اخترقت هذه
الانقسامات مؤسّسة الزيتونة نفسها حيث اضطلع شبابُها ممثلين في الطاهر الحدّاد و
أبي القاسم الشابّي بخطاب تجديديّ سواء على الصّعيد الأدبي أو الاجتماعي عبر سلسلة
من المحاضرات و النقاشات، الأمر الذي أفضى إلى حركيّة غير مسبوقة صلب النّخب رامية
إلى أفكار جديدة تترجم وعيَ رجالات الأدب بأنّهم مدعوّون إلى مجابهة التحدّيات
الاستعماريّة و الوضعيّة الاجتماعيّة عموما. لقد أثارت المحاضرة التي ألقاها
الشابّي على منبر قدماء الصادقيّة في غرّة فيفري 1929 جدلا حادّا. و لا شكّ أنّ
لقاء الشابّي و الحليوي و البشروش خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين، ثمّ بروز
جماعة "تحت السّور" مع الدوعاجي و كرباكة و العريبي و خريّف و الجندوبي
و بن فضيلة و العروي و محمود بورقيبة و محمّد المرزوقي و الهادي العبيدي و محمود
بيرم التونسي و زين العابدين السنوسي و غيرهم، إضافة إلى انطلاق الحركيّة الصحفيّة
و الأدبيّة، مقوّماتٌ أدّت إلى ميلاد تيّار إبداعيّ تأسيسي غذته عواملُ وفاقهم و
خلافهم على حدٍّ سواء في حقبة من تاريخ تونس تهدّدتها الهزّات الإيديولوجيّة و
الخصاصة الاجتماعيّة و ضيق الأفق. كانت تلك المرحلة الزاخرة بالتأليف علامة
مرجعيّة مميّزة لقسم مهمّ من الأدب التونسي المعاصر. طبع هذا المجتمعُ المصغّرُ
فترةَ الثلاثينات حتّى نكاد لا نميّز في أجناس الإبداع بين الصحافة و الأدب و
الشّعر الفصيح منه أو العاميّ، و تجدر الإشارة إلى ظهور نوع من النقد في الكتابات
الأدبيّة و الصحفيّة السّاخرة المستقاة من الثقافة الشعبيّة الفـَـضَّة قد
اتـُّخِذَت سلاحا في وجه المستعمر و رموزه و حلفائه و استُخدمت في فضح كلّ أشكال
الظلم و التهميش التي يتعرّض إليها الشعب، و لعلّ خير مثال جريدة
"الزّهو" للحاج عثمان الغربي حيث نُشرت قصائد الشاعر الملتزم عبد
الرحمان الكافي. هكذا تميّزت تلك المرحلة بإنتاج أدبيّ حمَّال لنفَس متمرّد و
منحاز إلى صفوف المفقَّرين فظهرت الرواية و الأقصوصة عبّر فيها عن طموحات الشعب
مؤلـِّفون لم تستـثنهم ظروفُ التسكّع و الانبتات.
التفّ الحراكُ الثقافي حول "الثريّا" بعد الحرب العالميّة
الثانية، ثمّ حول مجلّة "المباحث" لمحمد البشروش و التي تسلّمها محمود
المسعدي و ثلـّة من الصادقيين كعلي البلهوان و محجوب بن ميلاد و محمد السويسي و
الصادق مازيغ... روّاد التكوين الحداثي المنفتح على الثقافات الغربيّة، المتشبّث
اتّساقا بالخصوصيّة التونسيّة كعنصر تصدٍّ للاحتلال. و قد غذّى هذا التيّارُ
الأدبَ التونسي في مرحلة تاريخيّة دقيقة بمؤلّفات هامّة من قبيل "مولد
النسيان" و "حدّث أبو هريرة قال" و كذلك بترجمة آثار من الآداب العالميّة.
نعم لقد وُلد من رحِم رحلة البحث في الذات التي خاضتها النخبُ التقليديّة و
الحداثيّة، أدبٌ تونسيّ، رغم عوائق الأميّة، يروم النّـفاذَ إلى مجتمع مسكون بهاجس
المعيش المضنِي ،مغرق في صراعه السياسي ضدّ المحتلّ.
في شكل جديد من البحث اتـّخذ منحى تأكيد الموهبة الفرديّة، ظهرت غداة
الاستقلال "رابطة القلم الجديد" التي جذبت إليها جيل الشباب و هم ثمرة
النّظام الوطني القائم أساسا على تعميم التعليم و إرساء المدرسة العصريّة حيث تتصالح
البلاد مع لغتها و تاريخها و ثقافتها. فجاءت مجلّة "الفكر" التي أسّسها
محمد مزالي بمعيّة بشير بن سلامة استجابة لانتظارات شباب الروّاد ممّن تربّي على
تعليم تتعايش فيه العربيّة و الفرنسيّة بتناغم رائع. و حول مجلّة
"الفكر" ستتجمّع قاماتٌ طبعت الأدبَ التونسيّ، و صارت المجلّة منبرا
لفكر تحديثيّ انخرطت فيه مجموعة مواهب جديدة من جيل الاستقلال المتأثر بالثقافات
الحديثة و الفكر العالمي. لم يعد الأدب جنسا على حدة بل عاضدته أشكال تعبير فنيّ
موازية من قبيل المسرح و الموسيقى و السينما و الرّسم. إنّها مرحلة الانتقال من
مفهوم الحياة الأدبيّة التي عرفتها الثلاثينات و الأربعينات إلى مفهوم الحياة
الثقافيّة. و لعلّ أهمّ ما ميّزها عودةُ الطلبة التونسيين من الكليّات الفرنسيّة
ليضطلعوا بمهامّهم في الجامعة التونسيّة يتزعّمهم فريد غازي، توفيق بكّار، المنجي
الشملي و صالح القرمادي، فظهرت "الحوليّات" و "التجديد". و
لقد سمح القطعُ مع صراع الأجيال ببروز شراكة جديدة تمثلت في تلاميذ المعاهد ممّن
سيؤسّسون لنمط حديث من المسرح التونسي.
أقام عزّ الدين المدني جسرا بين جيل الأوائل (القرمادي،بكّار،بلخوجة،غازي)
و جيل سمير العيّادي و علي اللواتي و رضوان الكوني و فاضل الجزيري و رجاء فرحات و
محمد القرفي. كان مؤلّفه "الإنسان الصّفر" أحد أشكال التجديد في مواجهة
كتابات خريّف المتجذرة في الثقافة الشعبيّة مثل "الدقلة في عراجينها" أو
"برق الليل" من جهة، و كتابات القرمادي حيث تتزاوج الفصحى و العاميّة في
اقتدار لغويّ من جهة ثانية. ثمّ نشأ نادي أبي القاسم الشابي للأقصوصة بإدارة
العروسي المطوي و أسهمت مجلّة "قصص" في ازدهار فعليّ للرواية و القصّة
القصيرة التونسيّة.
شهدت الحياة الثقافيّة في فترة الستّينات عزوفا تدريجيّا عن مقاهي المدينة
العتيقة و الأرباض المحيطة بها و التي كان يؤمّها أدباء الثلاثينات، و بدأ الإقبال
على مقاهي الحيّ العصري بشارع فرنسا و شارع الحبيب بورقيبة حيث يجتمع الشعراء و
الصحفيّون و الرسّامون و رجال السينما و المسرح. و أحدث قدوم علي بن عيّاد على رأس
فرقة مدينة تونس للمسرح انقلابا في المشهد المسرحيّ أطاح بالأشكال التقليديّة
الخفيفة القديمة، فكان الحدث مسرحيّة "مراد الثالث" ثمرة لقاء ثالوث
مبدع ضمّ علي بن عيّاد و الحبيب بولعراس و زبير التركي في مأساة تروي عن الحكم
المطلق في حقبة من تاريخنا. أتاح هذا العملُ المجالَ واسعا أمام الخلق المسرحي
كأحد مقوّمات الأدب التونسي، فرأتَ النورَ مسرحيّة "الحلاّج" و مسرحيّة
"الزنج" حيث برع عز الدين المدني ببلاغته في سبر الإرث التاريخي العربي.
و كنتيجة حتميّة لهذه الحركيّة الشبابيّة فتح نادي القصّة بالورديّة – بدعم من
القدماء كالطاهر قيقة و البشير خريّف و العروسي المطوي- أبوابَه لمواهب شابّة كحسن
نصر و سمير العيّادي و محمود طرشونة و محمود بلعيد و عروسيّة النالوتي، و قد سبق
أن كان للمرأة حضورٌ في الساحة الأدبيّة.
لعلّ عشريّة الستينات أهمّ ما تمخّض عنه القرنُ من أحداث فاصلة. فحرب
الفيتنام و الثورة الثقافيّة الصينيّة و حرب العصابات في أمريكا اللاتينيّة و
انتفاضة الجامعات من كاليفورنيا إلى برلين و أخيرا أحداث ماي 68، كلّها عوامل
أثـّرت في العمل الثقافي و السياسي على وجه الخصوص. فقد كانت النزعات القوميّة و
الاشتراكيّة ماثلة في الآثار الأدبيّة التونسيّة و نذكر منها "بودودة
مات"1962 لمحمد رشاد الحمزاوي، "التوت المرّ"1967 لمحمد العروسي
المطوي، "يوم من أيّام زمرا"1968 لمحمد صالح الجابري، ثمّ أعمال بحوث
معمّقة في المخطوطات و الذاكرة الجماعيّة قادها الثنائي محمّد المرزوقي و الجيلاني
بالحاج يحيى فكانت "معركة الزلاج"1964 ، "أبو الحسن الحصري
القيرواني"1963 ، و "خريدة القصر و جريدة العصر"1966 .
ثمّ تحلّ السبعينات تأكيدا للتوجّه نحو الانخراط في الحداثة المنفتحة على
العالم التي أطلق شرارتها جيلُ الاستقلال. كان مثَـقف السبعينات عَدا تجذره في
الانتماء إلى الهويّة التونسيّة، توّاقا إلى قيم التقدّميّة، مطّلعا على التطوّرات
الحاصلة في الحركات الفكريّة و الأدبيّة العالميّة شرقا و غربا، متفاعلا مع قضايا
الحريّة و الكرامة، متأثرا بواقع عربيّ مثقل بوجع القضيّة الأمّ:فلسطين. فوجد جيلٌ
جديدٌ من الشعراء أمثال الطاهر الهمّامي، الحبيب زنّاد، مختار اللغماني، فضيلة
الشابي، محمد أحمد القابسي و نور الدين بن عزيزة ترحيبا من مجلّة "الثقافة"
الصادرة عن دار الثقافة بن خلدون، و من مجلّة "الفكر" و كذلك من مجلّة
"قصص" عن النادي الثقافي بالورديّة. و مكّنهم هذا من الالتحاق بالقدماء
كجعفر ماجد و نور الدين صمّود و الميداني بن صالح. و كان من المتوقـَّع أن يتولّد
عن هذا المزيج تنافسٌ بين المدرسة الكلاسيكيّة المحافظة و بين روّاد الشعر غير
العمودي و الحرّ، تطوّر إلى جدل جول قضايا اللغة و التراث و الالتزام زاد في
تأجيجه صدورُ ديوان "اللحمة الحيّة" لصالح القرمادي سنة 1970 .
و يمكن القول إنّ السبعينات كانت بلا منازع فترة الشعر الملتزم إذ تكثفت
الأمسيات الشعريّة في الكليّات و المبيتات الجامعيّة و الفضاءات الثقافيّة، بل على
ركح مهرجان قرطاج الذي قدّم عروضا لفرق موسيقيّة ملتزمة ساهمت في ولع التونسي
بالشعر. و يعود الفضلُ إلى تلك السّنوات في شهرة شعراء كالصغيّر أولاد حمد و
المنصف المزغنّي و آدم فتحي و محمد العوني و عبد الحميد خريّف.
و لم تشذ الولايات الداخليّ عن هذه الحركيّة فقد عَرفت القيروانُ شعراءَ
مجدّدين أمثال المنصف الوهايبي و محمد الغزّي و جميلة الماجري و خالد النجّار
إضافة إلى الرّوائي حسّونة مصباحي و بدعم من الشاعر و الناقد علي اللواتي. تميّزت
مدرسة القيروان بمنحًى رمزيّ ذي مرجعيّة تراثيّة مستوحاة من تاريخ المدينة الموغلة
في القيم الإيحائيّة الصوفيّة. و بالتوازي تشكّلت في صفاقس نواة شعريّة ضمّت عبد
الجبّار العش و نور الدين بوجلبان و المنصف المزغنّي و غيرهم و بدؤوا في تنشيط
النادي الأدبي و دار الثقافة.
طـُبِع المشهدُ الشعريّ في أواخر السبعينات باتّجاهات ثلاثة:
- تيّارٌ واقعيّ يمثله الشعرُ الملتزم المنخرط في النضال الاجتماعي إلى
جانب الطبقات المحرومة.
- تيّار ترميزيّ ماثل في مدرسة القيروان.
- اتجاه تحديثيّ من أجل شعر حرّ بقيادة أولاد حمد، محمد العوني و سوف
عبيد.
و يجدر التذكير بأنّ فترة السبعينات شهدت أيضا انتعاشا مسرحيّا بحكم ظهور أولى
الجمعيّات المسرحيّة الخاصّة.
لا جدال في أنّ الحياة الثقافيّة حققت نقلة نوعيّة مع إنشاء المعرض الدولي
للكتاب في بداية الثمانينات ممّا دفع إلى اتخاذ تدابير للتشجيع على الإنتاج الأدبي
و النشر و ازدياد المنتديات و الفضاءات و المهرجانات الأدبيّة. و بمساهمة هامّة من
الجامعيين و المختصّين في التراث و التاريخ و علم الآثار و المخطوطات صارت
الدراسات و الرّوايات و الدواوين و مؤلفات في التراث و علم الاجتماع و أدب الطفل
تؤثث المكتبة التونسيّة و أجنحة معرض الكتاب.
سُـئِل كاتب ياسين عن سبب اختياره الكتابة بالفرنسيّة فأجاب: " اللغة
الفرنسيّة عندنا غنيمة حرب." كيف لا و قد كان الجرحُ الذي خلـّفته حربُ
التحرير في الجزائر في نظره أعمق من أن يندمل، فمن الطبيعي أن يُمعِن إلى حدّ
الوهن في استخدام غنيمة حربٍ كان ثمنُها باهظا.
كانت الفرنسيّة لدى أغلب مستعمليها من شعراء أو كتّاب أو صحفيين أو باحثين
سواءً للضرورة المهنيّة أو للمتعة المحضة، مقارَبة في إطار التوافق المصلحيّ. و
على عكس ما تنبَّأ به أحمد مامي من "موت سريع" فالأدب التونسي النّاطِق
بالفرنسيّة من "العيون السّود"1943 لمحمود أصلان حتّى أيمن حسّان قد بلغ
مستويات محترمة سواء بفضل المؤلفين المغتربين أو المقيمين داخل الوطن أمثال عبد
الوهاب المؤدب أو مصطفى التليلي دون إغفال الأقلام النسائيّة كسعاد قلّوزو علياء
مبروك و آمنة بالحاج يحيى و هالة الباجي.
أمّا الشعر فستحمل لواءَه بعد الفقيد صالح القرمادي مواهبُ مثل منصف غشّام
و سمير المرزوقي و مجيد الحوسي و الهادي البوراوي و الطاهر بكري و غيرُهم.
انتهت ترجمة نصّ الصّديق علي سعيدان الذي أشكره على
تمكيني من ترجمة مقاله و الذي بحركة منه ربّما غير مقصودة قد نفض الغبار على عشقي
القديم للغة الفرنسيّة. و يجدر التنويه بأنّه
ترك لي مطلق الحريّة لإضافة ما سكت عنه النصّ لكنّني ارتأيتُ أن تكون ترجمة
وفيّة للنصّ الأصلي. أمّا الإضافات و هي كثيرة كإسهامات دور النشر التونسيّة في
دفع الأدب التونسي، و تاريخ الفنّ الهزلي في تونس، التأريخ للحركة المسرحيّة
التونسيّة بعلاماتها المميّزة كفرقة مدينة تونس و فرقة الكاف و فرقة قفصة، مساهمات
المعهد الرّشيدي في رسم ملامح الفنّ التونسي، دور الإذاعة و التلفزة التونسيّة في
الحراك الثقافي و الأدبي... و غيرها من المواضيع، فيمكن أن تـُفرد لها تدوينات
لاحقة.