

كان أهمّ دافع وراء مشروع المنتجع هو إعادة تأسيس مدينة جديدة على النمط الأوروبي تطيب فيها إقامة الفرنسيين و ينبهر بها التونسيّون فالبلفيدير كان في البداية وسيلة دعاية للحضارة الغربيّة التي أعطت أهميّة قصوى للحدائق العموميّة منذ عصر النهضة و لو أنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة كانت سبّاقة في الاحتفال بالخضرة و المياه و الحدائق و حدائق الكرخ في العراق و منتزهات الشام و الأندلس تشهد على ذلك . لكنّ الفرنسيين الوافدين وجدوا صعوبة في التأقلم مع مدينة تونس العتيقة و احتاجوا لمدينة جديدة فيها معالم الحضارة الأوروبيّة من مسرح و كازينو و قصر عدالة و معهد و منتزه
فحديقة البلفيدير هي تعبير عن الرفاهية الجديدة التي أراد الاستعمار أن يلوّح بها و يحققها للمعمّرين قصد زيادة عدد المهاجرين الفرنسيين إلى تونس
و لعلّ هناك دوافع أخرى خلف إنشاء منتجع البلفيدير أهمّها الدّافع العسكري لما تمتاز به الهضبة من موقع كاشف و مغطّى بالزياتين تسهل فيه إقامة الجيوش و تسهل حركتها . و قد استفاد الجيش الفرنسي عندما دخل أوّل مرة مدينة تونس سنة 1881 من جبل البلفيدير و أقام فيه ليشرف على كامل المدينة دون عناء . و استُخدِمَ البلفيدير زمن الحرب العالميّة الثانية من قبَل الجيش الألماني و جُهّزَت فيه ستّة أنفاق بها مخابئ و قاعات اجتماعات و قاعات أخرى مزيّنة بالفسيفساء خُصّصَت للرّاحة و الاستحمام و مخازن للأسلحة ... و بعد الاستقلال استغلت شركة الساتباك بعض هذه المخازن لخزن الأفلام لما تتوفّر عليه الدهاليز من درجة حرارة ملائمة . ثمّ أهمِلت تلك المخازن و سُرقت محتوياتها و أتلفَت ... نعود إلى زمن إنشاء المنتزه ، ما إن تأسّست الحديقة حتّى ارتفعت أسعار الأراضي المعدّة للبناء حولها فنشأت في محيطها أحياء راقية ثريّة و قد كانت أراضي فلاحيّة فقيرة لا تجلب أحدا فأصبحت محلّ تنافس كبير ففي سنة 1927 بيعت أراضي البناء حول البلفيدير بسعر 27 فرنكا للمتر المربّع الواحد بعد أن كان لا يتجاوز 7 فرنكات و تحصّلت بلديّة تونس بسبب هذا المشروع على أراضي جديدة سيُقام عليها شارع باريس و شارع فلسطين ثمّ تكوّنت في المناطق القريبة أحياء نوتردام و متيالفيل ... كيف كان المنتجع في بدايته؟
ما سجّلته بعض الوثائق السياحيّة و بعض التصميمات المتوفرة في أرشيف بلديّة العاصمة أنّه كان هضبة تتخلّلها طرق ضيّقة متداخلة و منحدرة و أصبحت بها ممرّات جديدة : الممرّ الخارجي و هو الذي يحيط بكامل الحديقة ، و ممرّ ثان ينطلق من ساحة باستور حتّى قمّة الهضبة في شكل نصف دائري ، و ممرّ ثالث يخترق الحديقة من اليمين إلى اليسار و يمرّ بالكازينو . و كان للحديقة بابان
الكازينو
تأسّس في نفس التاريخ في شكل مختلط بين المحلّي و الاسباني و به مشربيّة و صومعة صغيرة و قد جُهّز بمقهى و مطعم فيهما تقام الحفلات في الهواء الطلق و على شرفاته ركزت شمسيّات و كراسي و الشرفة تطلّ على غابة و حدائق و كانت منظرا رائعا قبل أن تُبنَى العمارات و تحجبه و قد تواصلت الحفلات به حتى نهاية الستينات - أنظر الصورة -
الميضة
أسِّسَت على يسار البركة المائيّة و تتكوّن من بقايا ميضة جامع كان في سوق الترك بالمدينة العتيقة و تحتوي على أعمدة من رخام و هي معلم مهمّ
قبّة الهواء
و هي قطعة جُلبت من قصر الوردة بمنّوبة ، وقع قلعها و توضيبها و هي مرصّعة بأعمدة و مزركشة بنقائش و أقواس من رخام و من جبس و من خشب و كلّها مغلفة بالجليز التونسي
بانوراما المائدة و هي أعلى هضبة دائريّة الشكل يحيط بها صفّان من الأشجار و بها مقاعد خشبيّة و حجريّة في شكل دائريّ تحت الظلال و هي موقع رائع للإطلال على كامل العاصمة
و اليوم و مع تفاعل الواقع التاريخي و التحوّلات التي شهدها مجتمعنا و لا يزال هل صار البلفيدير نقطة سوداء في وجه العاصمة ؟ و فضاء للفضلات و المياه الرّاكدة و سببا في تسرّب الروائح الكريهة و مكانا مناسبا لروّاد الانحراف و الإجرام ؟
فرصة كي نهيب ببلديّة تونس و كلّ من يهمّهم الأمر أن ينقذو هذا المعلم السياحي و الحضاري الرّائع لأنّه قبل منتزه النحلي و قرطاج لاند و حديقة فريقيا يبقى البلفيدير قسما مهمّا من ذاكرتنا الوطنيّة