رحَــلــتْ التــفـّــــاحــــــة
كنّا ثالوثا اجتمع فيه صدقُ الأطفال و جُهد الأبالسة إقبالا على الحياة لا
يملّ، صفّقت القلوب لبعضها دون كثير كلام و كأنّنا على تعارف منذ الصّبا. رحلت
بثينة أوّلا و لمّا تختم عقدها الثالث. باغتها الموت دون ضجيج فلبّت نداء الهاتف
ذات مساء أحد، بين " آه " من ألم في الرّأس و بين إسلام الرّوح ساعتان.
رحلت، و تركت وليدا في ربيعه الثاني و في قلوب الزملاء احتراقا. في فقدها اقتربت
إحدانا من الثانية أكثر و كان في الصداقة و ذكرى رفيقتنا الرّاحلة عزاء و شحنة
للأيّام القادمة. ثمّ التحق أصدقاء جدد تلاهم جدد، و مرّة أخرى تصفّق القلوب
لبعضها، و سرعان ما أصبح الجدد أغلى على الرّوح من مهجتها. مرّت سنوات لم نشعر
بطولها و لم يكن يعنينا عدّها فلنا في بعضنا حضن دافئ و صدر يمكن أن تدفن فيه رأسك و تبكي دون خجل
كلّما ادلهمّت الحياة، عيون تترقرق دمعا بدلا عنك، و مرح و ضحك وإضرابات و تعب و
نقاشات و تهانٍ و ذكريات كثيرة صارت قطعة من العمر. كنت أرى ألفة وسط كلّ هذا
بمثابة التفاحة، خضراء منتعشة متلألئة شبابا و صحّة و تسامحا و رقة و هدوءا حتّى
في أحلك أزماتها. كانت زينة المجالس، و قلبا كبيرا و صبرا لا ينثني. كانت إذا أقبل
الرّبيع تحمل إلينا الورود من حديقة بيتها لتزدان بها قاعة الأساتذة، أمّا روزنامة
العام الإداريّ الجديد فمن إهدائها دائما، و كانت السبّاقة في كلّ جمع للمال إذا
هممنا بتنظيم حفل توديع لزميل محال على التقاعد...
ماذا عساي أقول ؟ ألا سُحقا للبلاغة إن تخنّي الكلمات فلا أوفيك الحقَّ
كلّه أو بعضه. لم تمهلينا شهورا طويلة كي نعودك و نكرّر لك الزيارات. بضعُ اسابيع
في المستشفى عربد فيها ذاك الخبيثُ اللعين، كانت كفيلة أن تحدِث فينا الزلزال و
البوصلة كانت أنت، و الثباتُ كان أنتِ. الأمر الوحيدُ الذي تأكّدتُ منه أنّكِ لن
تطيقي سجن السّرير يا من كنتِ مقبلة على الحياة بملء الثغر و الذراعين، فرفرف منك
الجناحان انعتاقا إلى عالم أروع حيث لا علّة و لا عناء.
بالأمس دفنوكِ، مدّدوا جنبكِ الغالي على التراب فكيف سيحلو لنا هجوعٌ بعدُ
؟ بكيناكِ اليوم أيتامًا، و التفتنا إلى أرجاء قاعة الأساتذة بحثا عنكِ فلا أدري
إن كان هذا الصباح جزءًا من مماتك أم بقيّة لحياتك كما يكون الصمتُ بعد العزف جزءا
منه. هل رأيتنا يا ألفة ؟ هل رأيت كيف تُذرَف عليك الدموع؟ حتّى تلاميذك أتوا
لتوديعك، هل رأيت كيف واتاكِ يومٌ مشرق لا غيمة فيه ؟ كيف لا يكون و أنتِ الإشراقُ
و الضياء. هل رأيتِ ماذا فعلتِ أنتِ و بثينة بي؟ غادرتما رحيلا تلو الرّحيل و
تركتماني وحيدةً زاوية محطَّمة لثالوث انفرط عِقدُه، رحلتما ياقوتة و زمرّدة و
بقيتُ هنا زجاجا مهجورا، فيال سعادتكما باللقاء و يال شقائي في عزلتي فَـقدًا و
خسرانا.
أرقدي بسلام يا صديقتي العزيزة فالتعليمُ بعدكِ خراب و الصداقة بعدك جريحة
و الأفراحُ بدونكِ باهتة و دنيانا لن تعود أبدا كما كانت. أرقدي بسلام و دعي
السُّـهدَ لعيوننا القريحة و جرحكِ في قلوبنا لا يندمل و ذكراكِ باقية بيننا حيّة
نابضة لن يقوَى عليها الزمان.
وداعا يا أجمل الصديقات و يا أحبّ الصديقات و أرقّ الصديقات.