لمع البرق على هيئة فروع شجرة من الكهرباء فأضاء الطريق الضيّقة الموحشة الملتوية أمام سيّارة صغيرة يقود سائقها في حذر ، المطر يهطل بشراسة تنقر شآبيبُه البلّور الأمامي فلا يكاد يُرَى شيء ، على اليسار يقوم جبل جبّار تنذر صخوره بالسّقوط في أيّة لحظة و على اليمين حاجز خشبيّ قُـدَّ من جذوع الشجر هو كلّ ما يفصل الطريق عن هوة سحيقة تنتهي بشاطئ صخري تلطم أمواجه البرّ في صراع أبديّ زادته الرّيح هيجانا .
............................................................................
ليته بقي و لم يغادر ، ماذا عليه لو ازدرد شيئا من كرامته و أجّل المغادرة حتّى تهدأ سواكن الطبيعة
.
............................................................................
في كلّ إطلالة على قاع الهوة يغوص قلبه في أسفل بطنه ، هزيم الرّعد يكاد يدكّ الجبل فوق رأسه فيزداد تشبّثه بالمقود و عيناه لا تفارقان بضع أمتار من الطريق التي تضيئها مصابيح سيّارته القديمة .
.............................................................................
كان لابدّ أن يغادر ، لم يسْتَبْقِه أحد ، من كانت يهمّها أمره غيّبها الموت و لم يعد له في هذا الوجود صدر حنون يخشى عليه و يرأف . الأمّ ذات ملائكيّة يستحيل أن تكون من سائر البشر ، صدق الأجداد " يتيم الأب يتوسّد الرّكبة و يتيم الأمّ ينام في العَتَبَة " و من قال إنّ اليُتم يقتصر على الصِّبَى ؟ اليتيم يتيم في أيّة مرحلة من العمر . مذ ماتت والدته أدار له الزمن ظهره و انقلبت الدنيا على رأسه و لم تصْفُ له يوما . بدأت نتائجه تتقهقر و ساء سلوكه فلفظته المدرسة و رفض والده الإنفاق عليه لمواصلة تعليم حرّ أو تلقّي تكوين مهنيّ يقيه الفراغ و الرّذيلة فكان الشارع مسرحه النّشيط تعلّم فيه كلّ شيء و فعل فيه كلّ شيء التدخين و السُّكر و المخدّرات و السّرقة و دخل عالم الانحراف من بابه الكبير ، كثرت الكدمات في وجهه و جسده و احمرّت عيناه تلبّد شعره و اتّسخت ثيابه و تردّت هيأته و وافق كلّ ذلك أولى سنوات المراهقة . كان كلّما احتاج نقودا أو أحرقه الجوع عاد إلى البيت فينال نصيبه من والده شتما و ضربا و طردا في أغلب الأحيان . و لكي تكتمل مؤامرة حياته عليه جاءت القشّة التي قسمت ظهر البعير يوم تزوّج والده بامرأة شابّة استحوذت على قلبه و جيبه . لم تطق وجود الرّبيب في البلدة كلّها ليس في البيت فقط فحاكت و دبّرت و نفّذت و نجحت. أفاق ذات صباح على أعوان الأمن يقتحمون المخزن الذي يقيم فيه مع بعض الخلطاء و يقبضون عليه بتهمة سرقة مصوغ زوجة أبيه . كم انتحب و توسّل و أقسم أنّه ليس الفاعل ، كم تمنّى أن تظهر الحقيقة ، كم دعا الله أن يُخرجه من ورطته و وعده بالاستقامة . . لا القانون أنصفه و لا الله استمع إليه . أغْلِقَ دونه الباب الحديدي و قبع في إصلاحيّة الأحداث ثلاث سنوات و شهرين لم يزره فيها والده مرّة واحدة . علم أنّ زوجته أنجبت ولدا . حين أكمل المُدّة و خرج كان قد تجاوز الشعور بالألم و بالظلم و بالحرمان ، كان قد تجاوز كلّ شعور ، لم يبق في قلبه مكان للشّعور .
عاش في العاصمة نازحا وحيدا لا أهل و لا رفيق ، قَلّ كلامه و نابَتْ عنه نظرة حزينة لا تفارق عينيه الغائرتين . تقلّب في أعمال كثيرة ، عمل حمّالا و نادلا في مقهى و وَقّادا في حمّام و صَبِيّ فرَّان .. لم يستنكف من أيّ عمل كان كلّ همّه جمع المال لتنفيذ ما استقرّ في ذهنه . تَرْك البلد . وعده أحدهم بتمكينه من عبور البحر خلسة مقابل مبلغ ضخم ، ظلّ سنين يجمعه و بخل على نفسه بالزّاد ليالٍ كثيرة في سبيله . حين تمّ له ما أراد ، اقترض سيّارة قديمة من ورشة إصلاح السيّارات التي يعمل بها و وعد مُشغّله أن يُعيدها في الغد و اتّجه إلى مسقط رأسه . كان يودّ أن يُلقي تحيّة أخيرة على قبر أمّه قبل أن يغادر البلاد ، حين وصل إلى المقبرة كانت السّماء قد ادلهمّت بسحب دكناء تنذر بهبوب العاصفة و عَوَتْ ريح ديسمبر اللاّذعة و بدأت أولى زخّات المطر و لكنّه لم يشعر بكلّ ذلك . كان جاثما أمام الغائبة يناجيها و يشكو ظلم أبيه و النّاس و القانون و تخلّي إرادة السّماء عنه . خرج من المقبرة و مرّ ببطحاء البلدة ، انقبض قلبه و رَنـَتْ منه التفاتة إلى بيت أبيه و وجد قدميه تقودانه إليه كما في الصّغَر . قرع الباب فانفتح على صبيّ صغير " من أنت ؟ " قال الصبيّ في براءة فأجابه
:
ـ ما اسمك ؟
ـ منير
ـ أتعلم من أنا يا منير ؟
انكمش الصبيّ و اختفى نصفه خلف دفّة الباب
ـ لا تخف ، أنا أخوك يا منير
ـ . . .
ـ هل والدك هنا ؟
ـ نعم
ـ نادِهِ يا منير من فضلك
بعد فترة من الزمن لم يقدّر طولها ظهر بالباب رجل جهم المحيّا في قسماته غلظة و في عينيه حزن . ارتبك في حضرة أبيه ثمّ تقدّم و قبّل كتفه و قال " جئت لأخبرك بأمرين ، أوّلهما أنّي سأهاجر بدون رجوع و الثاني أنّي بريء من سرقة المصوغ و أقسم على قبر أمّي بذلك " لانت ملامح الشيخ و تدلّى شارباه و تمتم بكلمات سمع منها " صحبتك السّلامة " استدار و اتّجه إلى السيّارة ليغادر لكنّه ناداه أن " انتظرْ " غاب بالدّاخل بضع دقائق ثمّ عاد و دسّ في جيبه مبلغا من المال . كم تمنّى لو أخذه في حضنه و دعاه للمبيت عنده في ذلك الطّقس ، كم تمنّى لو عرّفه على أخيه و لو لليلة واحدة .
ا.......................................................................................
اغرورقت عيناه بالدّموع فلم يعد يميّز الطّريق ، الرّعد يقصف بشدّة و المطر ازداد غزارة . كان على
وشك أن يمسح دموعه حين أعشاه ضوء قويّ مباغت ، ظهرت شاحنة في الاتّجاه المعاكس ، خشي الاصطدام بها فمال إلى اليمين قليلا كي يتفاداها لكنّ السيّارة انزلقت و حادت عن الإسفلت المُعَبّد و ارتطمت بالحاجز الخشبيّ و حطّمته و وقعت في الهوّة محدثة قرقعة رهيبة على صخور المنحدر . كان يريد دخول البحر ، ها قد دخله و لكن أشلاء متناثرة . فليهنأ العالم .