mercredi 31 mars 2010

سِـبَـــــــاق ج2

غادر الأديب المكتبة بعد أن احتسى كأسه و دسّ السيجارة في جيب سترته ، تأبّط كتابه و تعلّقت الحسناءُ بذراعه . وحدها حكمة الاختيار مكّنته من المغادرة ، لو كان فضّل أحدَ المتبارين و اكتفى به عالَمًا لآنغلقتْ أبوابُ المكتبة إلى الأبد فصارتْ سجنه في حياته و قبره بعد الممات ، لكنّه آثر الحريّة و ها هو يسعى لينعم بها غير أنّ فرحته لم تدم ففي الخارج كانت المفاجأة بانتظاره . انتصبَتْ أمامه و عن يمينه و شماله خيامٌ سحريّة ثلاثٌ و تلامستْ أوتادُها فلا عُبُورَ إلاّ بدخول إحداها



في قبالته خيمة الجاه و الثراء ، من دخلها صار غنيّا ليس لثروته حدّ ، و عن يمينه خيمة النّفوذ و السّلطان المطلق و عن شماله خيمة المجد و الشّهرة من قصدها خلّده التاريخ بأحرف من نور . لابدّ أن يدخل إحداها إن كان يريد النّفاذ منها إلى طريق الحريّة ، صار الخيار محتوما لكنّه صعب . أخرج السّيجارة من جيبه ، أشعلها و سحب منها نَفَسيْن متتالييْن و أغرق في التفكير



أحسّ بالكتاب يتململ تحت إبطه فبادره : " هات ما عندك ، لابدّ أنّك أعمق تدبيرا فبماذا تشير ؟ " قال الكتاب : " أرى أن تتّجه إلى المجد و الشّهرة فليس من العدل أن يعيش مثلك و يموت مغمورا . ينبغي أن تطبّق شهرتك الآفاق و ينتشر إبداعك فيستنير به البشر و لهم في ذلك رقيّ عن عتمة الجهل و فضاضة الذّوق ، غدا تُدَرَّسُ حياتُك و آثارُك في الكليّات و الجامعات و تُنظَّم بآسمك النّدوات و المهرجانات فتصير مفكّر العصر و منقذ البشريّة في زمن عزّ فيه الفكر . تقدّم يا صديقي ، إفعلها و اضمن لنفسك الخلود . " جذبت الحسناء ذراعها في عصبيّة فانتبه إليها الأديب و قال : " من الواضح أنّ رأي الكتاب لم يرقك ، لا تغضبي يا شقيقة الرّوح و أشيري عليّ فلا مُلهِم لي سواك . " نزلت كلماته بلسما على انزعاجها فاستعاد وجهها الوضّاء إشراقته و لمعت عيناها ببريق وعد و همست في أذنه : " و ما حاجتك إلى الشهرة ؟ أوَ مثلك يبحث عن الشهرة ؟ إنّها مطلب كلّ غِرٍّ أرْعَنَ خاوٍ و إن كان العالَم لا يفقه أفكارك فذلك شأنه لا شأنك ، ما دمتَ تمتلك سحر القلم و عمق المعرفة فما ينقصك سوى أن تنعم بحياتك ، و ما النّعيم إن لم يكن ثروة تحقّق بها ما تريد ؟ ألستَ من دعاة عدم احتراف الكتابة موردا للرّزق ؟ ها هو المال مُتاحٌ لا يحدّه حدّ و لا عدّ ، خذه و دعنا نرى للحياة وجها جديدا يا حبيبي . " همس الكتاب في صوت خفيض " لو لم تقولي ما قلتِ لشككتُ أنّكِ من جنس النّساء . " " بماذا تتمتم يا كتلة الطّلسم ؟ " قالت الحسناء . أجاب الكتاب : " لا شيء ، فجأة تذكّرتُ قارون ، صديق قديم لي لا تعرفينه ... لا تبالي . " ابتسم المفكّر و قال : " عذرا يا صديقَيّ ، لستُ من هواة الشهرة و ما أنا بعاشق للثروة و إن كان ثمن الحريّة دخول إحدى الخيام فسأختار ذات المُلك و السّلطان عَلِّي أحقّق شيئا من العدل و أحمل الرعيّة على تقديس المعرفة ... " انتفضتْ الحسناء في ابتهاج لم تَقْوَ على مداراته و ردّدت بينها و بين نفسها " رائع ، مذهل ، أخيرا سأنعم بالنّفوذ ، و قد أقنعه بالزّواج فأصير ملِكة العباد و المتصرِّفة في خزائن البلاد . " صرخ الكتاب : " لا .. لا تفعل يا صديقي ، إيّاك و الوقوع في إغراء المُلك فللسّلطان بوارق خُلّبٌ تغيّر النّفوس ، سيجعل منك الكرسيُّ شخصا آخرَ لن تحتمل رؤيته في المرآة . إرجِعْ .. تمهّلْ ... " لوّح له المفكّر بيده و هو يتّجه رفقة حسنائه نحو الخيمة " لا تخشَ شيئا ، لن أطيل المقام ، إنْ هي إلاّ معبرٌ نحو الحريّة" و غاب




يتبع

dimanche 28 mars 2010

أزمة الكتاب ليست ظاهرة مغاربيّة

مقالي الشهري في " زوايا " المغاربيّة
الموضوع : قلق المؤلّفين و الناشرين و المثقفين في بلدان المغرب العربي من انخفاض حجم مبيعات الكتاب
يرجع أكبر مبرّر لتخوّف المؤلّفين و النّاشرين و المثقفين عموما من انحسار حضور الكتاب في المشهد الثقافي بالبلدان المغاربيّة إلى غياب
مشروع ثقافي واضح المعالم و لم يكن هذا وليد اللّحظة بل تظافرت عوامل عدّة منذ سنوات نبّه خلالها المثقّف المغاربي إلى أنّ الكتاب يحتضر و النتيجة اليوم هي انخفاض بارز في حجم مبيعات الكتب تسبّبت في إفرازه عوامل ثلاثة : صناعة الكتاب - محتوى الكتاب - القارئ المغاربي
صناعة الكتاب: إنّ مشاكل الكتاب المغاربي ترتبط أساسا بالطبع و النشر و التوزيع غير أنّ عمليّة النّشر تواجه حواجز متعدّدة لعلّ أهمّها غلاء الورق و قلّة نسبة التوزيع و هي المرحلة الصّعبة فقد يتحوّل الكاتب في أحيان كثيرة إلى موزّع لكتبه خاصّة إذا عجز عن متطلّبات دُور النّشر و الطّباعة و التوزيع . فالكتاب صناعة إلى جانب كونه عملا ثقافيّا و الصناعة تقتضي سوقا طالما أنّها تدخل في منظومة الاستثمار و في هذا الصّدد يعتبر البعض أنّ النّشر في المغرب الكبير مجال حديث يتلمّس خطواته منذ خمس و عشرين سنة عكس بعض البلدان العربيّة الأخرى ذات التراكم التاريخي في مجال الطّباعة و النّشر كسوريا و مصر و لبنان و العراق . بالإضافة إلى ضعف القدرة الشرائيّة للمواطن المغاربي ممّا جعل الإقبال على الكتاب ضعيفا و ممّا أدّى ببعض المبدعين إلى خوض تجربة النشر لأنفسهم و هو ما يُعرَف بظاهرة المُؤلّف النّاشر . إلاّ أنّ هذا لا يفضّ الإشكال فلا تزال أمام المُؤلّف عقبة التوزيع و من ثَـمَّ تسكن الكتب الرّفوف و الغرف و المخازن إذ لا وجود لشركات توزيع تروّج للكتاب بل إنّ بعض دور النّشر تدعم الكتب ذات الصّبغة التجاريّة ككتب التنجيم و الطبخ و السّحر و التطبيب و الفتاوي أمّا الكتاب العلمي و الثقافي فلا يجد من يدعمه و يراهن عليه و لعلّ نسب الإقبال في المعارض الدوليّة خير دليل. كلّ هذه العراقيل دفعت بالمؤلّف إلى خوض تجربة النّشر الإلكتروني فهو يُعتَبَر أداة لفكّ عزلة الكاتب بتمكينه من تخطّي جميع حلقات الوساطة للوصول رأسًا إلى القارئ
محتوى الكتاب: و للكُتَّاب دورٌ رئيسٌ في احتضار الكتاب و عزوف القارئ و قلّة إقباله ففي هذا الزّمن المتغيّر تطلع علينا من حين لآخر كتب ذات إبداع هزيل غارقة في أوحال الأخطاء اللّغويّة غير مواكبة للمشهد الثقافي غير مُقنعة للمتلقّي و لا مُحترمة لذكائه
القارئ المغاربي: صدرتْ مؤخّرا بتونس في 28 جانفي من السّنة الجارية نتائج " الاستشارة الوطنيّة حول الكتاب و المطالعة "بإشراف من وزارة الثقافة و بمشاركة لجان مختصّة من كامل تراب الجمهوريّة و عدد كبير من المكتبيين و المثقفين و أصحاب دُور النّشر و مختلف المهن ذات الصّلة بالكتاب ، و من أهمّ ما جاء فيها أنّ 22،74 بالمائة من التونسيّين لم يقرؤوا كتابا في حياتهم و أنّ النّساء في تونس يطالعن أكثر من الرّجال بفارق نسبته 7،51 و أنّ أكبر نسبة من القرّاء تتراوح أعمارهم بين 25 و 35 سنة و أنّ نسبة المرتادين للمكتبات العموميّة بغرض المطالعة لا يتجاوز 13،15 بالمائة و أنّ أهمّ الأسباب المفسّرة لقلّة إقبال التونسي على المطالعة هي عدم توفّر الوقت و غلاء ثمن الكتاب و تفضيله أنشطة أخرى كالرّياضة و الأنترنيت
و أعتقد أنّ هذه النّسب لا تختلف كثيرا من بلد إلى آخر فقد تراجعت تقاليد المطالعة في العائلة المغاربيّة و العربيّة عموما في مقابل تزايد الإقبال على التكنولوجيا الرّقميّة و تنامي الثقافة السّمعيّة البصريّة ، بل أكاد أجزم أنّ انخفاض معدّل القراءة ليس ظاهرة مغاربيّة فقط
.
و رغم ذلك فقد بات من الأكيد اتّخاذ تدابير عاجلة لتشجيع المغاربيين على القراءة بتدخّل أنجع من وزارات الثقافة لدعم الكتاب و الضغط على كلفته و تكثيف البرامج المُحفّزة على المطالعة في المؤسّسات التعليميّة و وسائل الإعلام و تنظيم مسابقات و مهرجانات للكتاب إبداعًا و قراءة على غرار ما يُنظَّم للغناء و الموسيقى و اعتبار المطالعة شأنًـا وطنيّا و رافدًا أساسيّا من روافد الإقلاع الحضاري

vendredi 26 mars 2010

سِـــــبَـــــــــاق ج1

في قاعة فسيحة من مكتبة عموميّة ضخمة انتظم سباق فريد . لم يكن سباقا في الإنتاج أو في المطالعة و لا اختبارا للمعلومات بل كان سباقا حقيقيّا بالمعنى المتعارف خطّ انطلاق
و مضمارا و خطّ وصول . أزيلت المناضد و الكراسي و نُقلت خزائن الكتب و الرّفوف إلى قاعة مجاورة و أضيئت المصابيح للسّباق الحدث ، لا مدارج للجمهور و لا لجنة تحكيم و لا مُعَلّق ، فقط أربعة متسابقين اصطفّوا عند خطّ الانطلاق و هم على التوالي كأسُ نبيذ
و حسناء و سيجارةٌ و كتاب ، في تَبَارٍ من أجل الوصول إلى المُبدِع الجالس عند خطّ الوصول من سيكون الأسرع في بلوغ عقله و الظّفر بقلبه و امتلاك روحه . و بدون صفّارة أو إشارة تبادل المتبارون النّظر فيما بينهم و انطلقوا دفعة واحدة


رفعت الحسناء ذيل ثوبها لتكشف عن كاحلين كأنّهما العاجُ مُشرَبٌ بدم الغزال و مدّت خطوة ثابتة جريئة فاهتزّ منها نهدان ثرثاران في رقصة للحياة تَسبي أيّ قائم لله مبتهل ثمّ أطلقت ضحكة ساخرة و قالت : " حَمْقَـى .. كيف خطرتْ لكم مُجاراتي على قلب الأديب و أنا إلهامه و ربّة أفكاره ؟ بين شفتيَّ نارُه و نعيمُه و من أجلي يَسْهَدُ و يتعذّب و يمسك يَراعَه
و يبدع . هههه مجانين . " ردّت السيجارة في تشنّج و عصبيّة : " يالكِ من مغرورة .. غدا يذوي جمالك و يخبو نورُ صِباكِ و ما أسرعَ ذلك فيكم معشر البشر ، سينصرف أديبُكِ عنك إلى سواك و لن يبقى منك سوى بعض ذكرى بين سطور كتاب مُهمَل على أحد الرّفوف . أنا مَن أسري في دمه و عقله ، إذا غبت عنه لا يثنيه اللّيل و البرد و المطر على الخروج في طلبي ، مكاني دائما بين شفتيه و مسكني بين جوانحه و حبّه لي لا يحدّه سنّ و لا مَقام فأنا معبودة الغنيّ و الفقير ، الفتى و الشيخ ، الجميع يُفنِي في طِلابي ماله و شبابه ، أنا المُرَحَّبُ بي في كلّ الأماكن في القصور و بين جدران السّجون ... " تأرجحَتْ الكأسُ حتّى تراقص فيها النّبيذ و بانتْ له لألاءُ و هتف في استهزاء : " اسمعوا من يتحدّث عن الجمال الذّاوي
و الصِّبَى الفاني .. سيجارة لا تتجاوز حياتها الدّقيقة هههه كفاكِ عُـجْبًا بنفسك و اذكري هوانك بعد أن تُـسْتَلَّ منك الرّوحُ فيُلوَى عنقُك و تُـلقَيْن في المنفضة فإذا ازدحمتْ بك
و بأخواتك كانت القمامة مصيركنّ . أمّا أنا فالثّمالةُ منّي بألفٍ من أمثالك ، أسيلُ في الجوف فأرْقَـى إلى العقل ، بفضلي تَجْـرُؤُ النّظرة و ينطلق اللّسان و ينفلت شيطانُ الإبداع من عقاله . أنا رفيقُ البشر منذ بدء الخليقة ، أرافق أحزانهم و أفراحهم ، نجاحهم و فشلهم ، تحملني الدِّنانُ في حروبهم و ترتفع بي الأكوابُ في انتصاراتهم ، أنا الحاضرُ في أشعارهم
و رسومهم و آدابهم . أما علمتِ أنّ رَبَّهم وعدهم بأنهار من الخمر في الجنّة فهل تراه وعدهم بسيجارة واحدة ؟ فأين أنتِ من وهجي و ألقي و سلطاني ؟ " و ما إن أتمّ كلامه حتّى التفتوا جميعا إلى الكتاب المُتعثّر خلفهم و ضحكوا . هتفت به الحسناء : " ما خطبُكَ يا جدّي ؟ هل خار عزمُك و ثقلتْ حركتك و أنت على أرض ملعبك ؟ " فأجاب في صَلَفٍ : " أنا لا أخاطبُ الجَهَلة ، فرحون بتقدّمكم في السّباق ؟ و نسيتُم أنّ بين ثنايايَ أفكارًا لها أجنحة تصل قبلكم إلى الأديب و إلى الدّنيا بأسرها ، أنا لا يرهبني الموتُ و الهرم فكلّكم فانون و أنا الباقي، يهابُني السّلطان و يرتعد منّي الطّغاة ، بوحي منّي اندلعت الثورات و من أجلي أقيمت المحارق و المشانق ، أنا أحمل لكاتبي مجده أو حتفه و له في كليهما خلود . " قال . و فتح غلافه و طار و علا فصار كطائر الفينيق

بلغت المنافسة ذروتها حين اقترب السباق من نهايته و لاح خطّ الوصول . نهض الأديب من مقعده و تقدّم نحو المضمار ، لأوّل مرّة في تاريخ السّباقات يتقدّم خطّ الوصول من المتسابقين و ليس العكس . احتضن المبدع المتبارين الأربعة و قال : " يعزّ عليَّ يا أحبّتي أن أقول لكم عَبَثًا تنافستم فلن أتخلّى عنكم و إن لم تتسابقوا غير أنّه في الوقت ذاته لا يمكنني الاحتفاظ بكم هنا و هذه الجدران الخانقة تطبق على أنفاسي

حريّتي .. حريّتي أغلى و أبقى و أرقى و لست بمتنازل عنها

هلمّوا نخرج إلى الفضاء النيّر فالظلام للخفافيش

vendredi 19 mars 2010

صرخـة في الظــلام

أيّهما أفضل للتفكير الجلوسُ في الظلام أم تسريح البصر في الموجودات تحت النور؟ الاختلاء بالنّفس عمّن حولها فلا صوت يعلو على صوت الأنفاس أم الاختلاط و الانخراط في صخب الحركة و النّاس؟


لماذا يطلب الأطبّاء من بعض مرضاهم البقاء في غرفة مظلمة؟ من قال إنّ الظلام مدعاة لإراحة العقل من رياضة التفكير؟ و ما أدراهم أنّه لن تأتلقَ في العتمة ألف مرآة تعكس لك ذاتك بسذاجة ماضيها و هوان حاضرها و بمستقبلها الغائم .. الغائم، و أنّه لن تنبَجسَ ألف نافذة تقفُ عند حافتها فتمتطي منك الرّوحُ سجّادا هنديّا سابحا و تخلّفُ وراءك الأغلال الصّدئة و المادّة العاجزة لتحلّق.. ليس بالضرورة عاليًا، المهمّ أن تُـحَلّق


إذا اهتزّ أحدهم زهوًا و فرحا و انشراحا وصمناه بالسّاذج الغِرّ المُسَطّح أمّا إذا أبدى وجوما و تجهّما نعتناه بالحكمة و النّظرة الثاقبة. لماذا؟ أيكون إقرارا بأنّ الحياة مُؤذية بطبعها و بأنّ الابتسام لها ضربٌ من البلاهة؟ البعض يعتبره حظّا و البعض الآخر يسمّيه قضاء و قدرا و يبحث له عن المبرّرات و الحكمة من وراء المحنة و يُمنّي نفسه بالأفضل في حياة أخرى. و سواء كان حظّا أو مشيئة فالأمر قائم : تقسيم غير عادل للمصائر. ما الحكمة في أن تُعطَى شيئا و تُسلَب آخر؟ و قد لا تُمْنَحُ أيّ شيء ، منهم من جمع الدّمامة و المرض و الفقر و الجهل و الهوان و ويلات حرب لا يد له فيها فأيّ خليفة في الأرض هذا ؟ و العكس صحيح، فمنهم من حَضِيَ بالجمال و الصحّة و الغِنَى و العلم و التمدّن و الحريّة. يقولون لو حصل الإنسان على كلّ شيء لطغى .. فليَحْضَ ببعض المنح و لا أظنّه سيُحدث ثقبًا في السّماء بطغيانه ، و كأنّ طغاة العالم كانوا كُـمَّلاً


و يقول البعض الآخر إنّ الأمر ليس حظّا و لا هبات إنّما إرادة الإنسان و سعيه هما فقط ما يحدّد نصيبه ... هراء. و أنت في حُمّى سعيك لتحقيق ذاتك تفقد الأعزّاء و الأحبّة ، يقعون منك على الطّريق يهاجرون أو يمرضون أو يغيّبهم الموت ، و أنت نفسك قد تفقد الصحّة و الإصرار و ينطفئ منك الشوق فتقف في النقطة الصفر لا أنت قادر على التقدّم و لا الرّجوع عاد ممكنًا . لو كنتَ أبرمتَ عقدا مع الشيطان لقالوا ذاك جزاء من يتحالف مع عدوّ البشر يُزيّن لك الألم حتّى تقع فيه . المُضحِك أنّكَ لم تعقد حلفا مع أحد . أنت مخلوق تمارس حياتك كما وُهِبتَها فلماذا على قدرك أن يكون بتلك الشّراسة ؟ و لماذا إذا بلغتَ هذا السؤال عُـدَّ وقوفا على تخوم الخطوط الحمراء التي متى تجاوزتها صرخوا في وجهك: هذا كفر . أما كان ينبغي للمرء قبل أن يكفر أن يعرف بما يؤمن و يرى نعمَته عليه ؟


لماذا أنجب طفلا ؟ لكي أربّيه و أنفق عليه من مالي و جهدي و وقتي و أمنحه حبّي و رعايتي و حناني حتّى ينعم بالحياة و في نجاحه نجاحي و إلاّ فلماذا ندرّسهم و نعالجهم و ندلّلهم و نحبوهم بالعناية؟ أمّا إذا كنت أنجبه كي أحبسه و أعرّيه و أضربه و أشوّه جسده و روحه و أحرمه فينشأ مُهانا مُعذّبا ذليلا مُحبَطا و يرى أنّي أفضّل عليه أخاه ثمّ أقول له لي حكمة في ذلك فإذا ضجّ في السّؤال و ثار و انتقد نعتُّـه بالعقوق و الجحود فلستُ أتّصِفُ حينها إلاّ بصفة واحدة و هي السّاديّة و من حقّ ابني أن يكفر بقيمة الأمومة


أنيرُوا الأضواء أيّها الأطبّاء ، باطِلة نظريّتُكم و زائفة فما الظّلام سوى فضاء فسيح لسباحة الفكر و تقلّبه و رياضة شاقّة للعقول التي سلّمَتْ و سالمت و استسلمتْ ، على رأي أبي الطيّب: و ما انتفاعُ أخِ الدّنيا بناظره / إذا استوتْ عنده الأنوارُ و الظُّلَـمُ


فبعضهم استوى عنده الظلام و الضّياء ، ما جدوى أن يضطربوا بين النّاس و الحركة و الأنوارِ و العقلُ جامدٌ في غياهب العتمة لا يشكّ و لا يجرؤ و لا يثور ، ما فائدة النّور لديهم إن لم يرَوْا في رقعته المصيـــر؟
ما كانت دعوة للإلحاد ، إنْ هي إلاّ صرخة ضيق تصاعد بخارُها و تلاشى.. في الظلام

lundi 8 mars 2010

الشّــكـارة و البـحــــر

الشكارة و البحر .. عبارة تونسيّة قديمة ظهرت من أجداد أجدادنا ، نقولوها علّي استوى وجوده و عدمه و ما عاد يصلح لا للسّوق لا للصندوق . لكن عمرنا ما تسائلنا علاش تقالت و في أيّ ظروف و شنوّة سرّ ظهورها .
قدّاش غريب بَــرّ تونس ... ديما كان متفرّد بحاجات ما تلقاها في حتّى برّ و ما يشبّه فيها لحدّ ، هي الّي عملتْ خصوصيته سواء كانت باهية و إلاّ خايبة . كيف ما عرف الفقه و القضاء التونسي الصّداق القيرواني و الّي كان ثورة في عصره فإنّه تاريخ تونس عرف زادة حاجة إسمها " الشكارة و البحر " . يذكر الأستاذ المؤرّخ الهادي التيمومي إلّي التوانسة قديما كانوا إذا ضبطوا تونسيّة مسلمة متلبّسة في وضعيّة زنا مع ذِمّي و إلاّ نصراني ، المهمّ موش مسلم ، يحطّوها في شكارة و يثقّلوها بالحجر و يرميوها في بحيرة تونس و الممارسة هذه كانت تتمّ بمباركة و موافقة مشايخ الإسلام في البلاد ، و كان معمول بيها في العهد الحفصي و تواصلت حتّى للعهد العثماني .
الشكارة و البحر ... لا محاكمة لا قاضي و لا هم يحزنون . الظاهرة هذه تورّي حاجتين : الأولة إنّه حكم عقاب المرأة الزانية يختلف حسب ديانة شريكها في الزنا و من هنا نستنتج إنّه التوانسة على اختلاف دياناتهم ما كانوش متساوين أمام القانون . الحاجة الثانية هي كيفيّة التعامل مع المرا في بلاد مسلمة المفروض تطبّق في الشريعة . يقول القايل الشريعة في الحالة هذه و في الزمان هذاك تحكم بالجلد و إلاّ بالرّجم نقلّك الله غالب عليّ و عليها يرجموها بالحجر و إلاّ بالكنتول آش لزّها من أصله . لكن موش هذه المشكلة . القضيّة هي كيفاش تونس المسلمة و في فترة طويلة من تاريخها تحكم بأحكام الشريعة في كلّ شيء إلاّ في المسألة هذه بالذات تطبّق في حكم وضعي ما يشبّه لشيء في ذات الوقت نفس البلاد و نفس المجتمع و نفس الفقه يبيح للمرا إنّها تشرط على راجلها في الصّداق باش ما ياخذش عليها مرا أخرى في عصر كلّ بلاد الإسلام كانت تمارس في تعدّد الزوجات و لا تزال . لوحة فسيفسائيّة فريدة من نوعها لمجتمع متحرّك يزدهر في الكونتراست و يتعايش فيه الشيء و نقيضه .
من قبل ما يحين اليوم العالمي للمرأة ، توّة فترة كلّ ما ندخل للعالم الافتراضي نلقى الدنيا قايمة و مازالت ما قعدتش على الحجاب و النقاب بين مؤيّد و معارض و نقاشات و قروبات و صفحات في الفايسبوك ... يا ولادي راهو لا خوف على تونس لا من إفراط و لا من تفريط . التوانسة ما ينجّموش يكونو سِيرِي كاسارونات هكّة خلقهم ربّي من أوّل الدنيا كيف ما عندهم الصداق القيرواني و الشكارة و البحر كيف ما باش يقعد عندهم الحجاب و الميني جوب ، الجوامع و المساجد عامرة حتّى الوتلة و البواتات ما عندك فيها ما تقول أهيك تملى و افرّغ على طول العام . كان المكتبات قعدت تسخّف تاكل فيها الغبابر . و لهذا أخطاونا من هالحروب الافتراضيّة راهو الشارع موش هذه مشاغله الواقعيّة .في اليوم العالمي للمرأة هات عطينا نحاسبو ذواتنا ، آش حقّقنا و شنوّة الّي مازال بعيد و صعيب ، شنيّة المكانة الّي خذيناها في الثقافة و الإعلام و السياسة و الحركة الاقتصاديّة ، باش شاركنا في نحت تونس متاع غدوة و شنوّة موقعنا بين العرب و في العالم ، و هات نجاوبو على الإسئلة هذه بأمانة موش كنساء بركة على خاطر الحركات النسويّة ولاّت موضة قديمة و إنّما في منظومة حقوق الإنسان الشاملة الّي ما تتقسمش على أساس جنس و لا لون
كلّ عام و المرا و الرّاجل التوانسة بخير و ألف تحيّة لأصدقائنا المدوّنين إلّي ديما حاضرين في الموعد و يكتبوا للمرا و هذا شيء يشرّفني كتونسيّة. .

jeudi 4 mars 2010

الرّسالـــــة

في ليلة موحشة حين تستقبل الطبيعة خريفها المغبرّ و يحتجب القمر خلف الغيوم فيثقل الكون حتى لا يكاد يُبين و يبحث الوجود عن بقايا يقظ بين الأحياء ليواري سوآت بني جنسه ، عند ملتقى مَرَج البحريْن حيث ينصهر الماء في الماء ليزداد عُتِيًّا ، تكتّلت على حافة البرّ صخور صلدة في عناق و تكاتف لم يَفُـتَّ فيهما لطمُ الموج . نقطة غريبة تنهض في تمرّد عن عقال الزمان زادتها العتمة إيذانا بحادث جلل يضطرب و يتأهّب و يتوثّب . في غفلة من الكائنات ، اجتمعت ثلاثة أشباح في الظلام لا تظهر منها إلاّ هاماتها، كُتَلٌ داكنة يَفرُّ منها اللّيل و لا يُميّز النّاظر إذا كانت قد تلفّعت بعباءات أو تكوّمت تحت ما يشبه الأجنحة . مخلوقات لا جنس لها و لا رَسم ، تكوين غريب بين البشر و الملائكة و الوحوش. وحده البحر المُتمَدِّدُ أسفل مجلسها كان يعلم سرّ هويّتها ، كلّ ما كان باديًا على الثلاثة انشغالٌ و إطراقٌ و هَمٌّ ثقيل . فجأة نطق أحد الأشباح : " من أين ينحدر النَصّ ؟ و كيف يشرعُ في النّهوض ؟ فأجاب
الشبح الثاني : " إنّه مجرّد كلام ، و لكنّه نوع من الكلام متفرّد ، في رحابه تقضي الكلمة على اغترابها عن ذاتها فتكفّ عن كونها أداة تستمدّ ماهيّتها من مدى تحقيقها لوظيفتيْ الإبانة و الإفهام و تستردّ ماهيّتها من جديد لتتحوّل إلى كيان يرشح بذات قائلها . ذلك أنّ الكتابة ضربٌ من النّرجسيّة أو لا تكون . هي منافسة الخالق في الخلق متسربلة بالغموض فتبدو كما لو أنّها تقف على تُـخوم ما لا يُقال و ما لاذ بالصّمت و تُومِئُ مجرّد إيماء و تجاهِدُ لتكون . لذلك تتبَدَّى أنّها حركة اجتياح لما يظلّ محتمِيا بالممنوع و المُحَرَّم . إنّ الكاتب حتّى في لحظات رُعبه و حزنه و غضبه و خيبة أمله لا ينشغل بذاته عن العالم بل يحضر في تفاصيله حين يكون قادرا على انتشاله من عتمة الغياب و العروج به إلى التجَلّي فيُفلِت من عقال التَّـشَيُّؤ و يشهد التحوّل ، تلك هي لحظة المكاشفة القائمة على التشكّل تنتقل بالنصّ من السّطح إلى العمق . أما رأيتَ أنّ ضربا كهذا من الكتابة بقيَ في نظر القراءة المُتعجّلة يُعتَبَر تَعْمِيَة ؟ أوَ تدري لماذا ينغلق النصّ في وجه تلك القراءة المتعجِّلة و لا يمنحُها نفسه ؟ لأنّها تطلبُ موته . كلّ مقارَبَة متشبّثة بالسّطح تقف أمام عمق النصّ قاصرة لا تجيب لأنّ الإجابة تتطلّب إعمال الفكر و استقراء الدّلالة و التورّط في أدغال المَقاصد و تلك مُجازَفة لا تتأتّى للجميع . "
تململ الشبح الثالث و أفرغ قدَحًا مُتوهّجا في جوفه فأومض في وجهه المُظلم شيء كالبريق ثمّ قال : " ما أروعَهم حين يكتبون ، يختار الواحد منهم الكتابة مُنقذا و ما إن يَشرَعَ فيها حتّى يدخل في سَفَر العذابات فتتوالد في نصوصه ومضات مُخبِرَة عن ذلك الضَّنَى العاتي
و تبدو كتابته كما لو أنّها نوع من العَصْف تأخذه من ذاته كالزّلزلة . أتذكران مُقاربَتهم للنّصوص المُقدَّسَة ؟ حاصَروا الوَمَضات و استقرؤوها فتحوّلتْ بعد طول التمَلِّي إلى مَسَاربَ تقود إلى ما تكَتَّمَ مُقفَلا على نفسه و ما تحَجَّبَ مُتمَنِّعًا لا يَمنحُ ذاته . وحدَهم مجانينُهم استمرُّوا في طقس الكتابة و اسْتَمْرَؤوا عذابَها المُتجدّد فبَلغوا لذّة المُنتَهَى و انكشف لهم ما وراء الظاهر فشرعوا يلتقطون نبْضَ الكون كما سمّاه شاعِرُهم / روح الكائنات المُستتر / و لكنّ نبوءات الأوّلين حدّثتْ عن زمن رديء تغدو فيه الكتابة مُريحَة فتصيرُ لغْوًا و إنّي أرى أنّه أضلّهم . " قال .
في تلك الساعة الطلسم انكشفتْ عن السّماء حُجبُها و صدر عنها صوتٌ رهيب ردّدتْ صداه الصّخور " في البَدْء لمْ نُخلَقْ ، في البَدْءِ كان القول فكانت الأسماء . ذلك الفانِي سَمَّى الموجودات فباتتْ لغته تزخر بالحياة و تزدحم فيها الاحتمالات و الإمكانات ، ذلك أنّه حين سَمَّى كشَف و حين كَشَفَ أسَّس فكان الوجود . إنّ الكتابة أعظم و أخطر فعل مارَسَه الإنسانُ على الإطلاق . " هتفت الأشباحُ الثلاثة في صوت واحد : " فهَلْ تعطّل كلّ ذلك و أدركَه البِلَى ؟ هل فقدَتْ الكلماتُ حرارَتَها الأولى بالتّداوُل و التّكرار و لمْ يَبْقَ منها بين يدَيْ الإنسان سِوَى مُجرّد ثرثرة تقومُ على أنقاضها مملكَةُ الأشياء ؟ لابدّ أن تتمرَّدَ اللّغة على البُعد الواحد ، إنْ طَفَحَتْ بالدّلالات فستُعَرِّي الكوامن و تكشفُ عن الأبعاد فيَكُفُّ الواقعُ تحت مفعولها عن كونه فَجًّا مَوَاتًا . النصُّ وحدَه يمكن أن يَنتشِلَ اللّغة و الواقعَ و مِن ورائهما الإنسان . فمتى استلبَتْ اللّغة و تقادَمَتْ و اغترَبَتْ أدركها البِلَى و عوضَ أن تمنحَ الإنسانَ ماهيّة الكائنات تُسَلّمُهُ مظهرَها و قشرَتَها فيُصبح مُهَدَّدا في وجوده فإنْ توقّفَ عن الكتابة أقرّ بسُلطان العَدَم ... صار لِزامًا علينا أن نضطلعَ بأشدّ أدوارنا خطورة اللّيلة سنُجدِّدُ اللّغة فيتَجدَّدُ الوجود ، علينا أن نُجبِرَها على استرداد ذاكرتها في هذا الزّمن بلا ذاكرة ، فأينَ لنا بسَهِـدٍ بين النّيَام يحمل عنّا هذا القَدَر فيَنبَعِث كائنًا كاتِبًا "
كان الليل قد انقضى أكثره و حانتْ ساعة احتضاره فهلّت أولى تباشير الفجر تزحف في خطوات حاسِمة غاشِيَة البحر و الصّخور و المباني المتناثرة . مازال البشر نيامًا كالأموات و المكانُ قَفْـرٌ إلاّ من أديب بَدَا مُترنِّحًا يَجوسُ خلال الأزقّة يَنشُدُ طريقا إلى البحر عَلّه يَعثرُ عنده على حُطام إلهامه . تلاحَظتْ الأشباحُ فيما بينها و تهامَسَتْ ثمّ هَبَّتْ واقفة في حركة واحدة فتسامَقَتْ قاماتُها في عُـلُوٍّ باذِخٍ لا عَهدَ لأهل الأرض بمثله فمَا أغْنَى نورُ الفجر الواشي بمَلامِحها شيئا و لا أبَان . مازال لمْ يرَها الرّجُلُ بَعْدُ حين ألَـمَّ به غَـشْيٌ و هو ثابتُ القدمين لا يَجثمُ كأنّ الزّمنَ توقّف أو كأنّه صار ذاتا خارج الزّمن و تركه يفعل فعله في النّيام أشباه الأحياء فيَزيدَهم هَرَمًا و بِلًـى ، بل لكأنّ قوّة قاهرة رفعته و طارت به على ظهور العاديات ضبْحًا المُغيرات صُبْحا و يَمَّمَتْ سِدْرَة المُنتَهَى حيث تلقّفَته أيادٍ من نور و همَسَتْ الثغور في أذنه " اكْـتُبْ " فأخذه ذهولٌ أخرجه من حدود الزمان و المكان و الجسد و كلّ مادّة .
سَكَبَتْ الأشباحُ على رأسه سائلا غريبًا و تمتمتْ بكلمات مُبهمَة و إذا بأحدها يهتف : " تمَهَّلا ، ماذا فعلنا بهذا الشقيّ ؟ أنُسَلّـمُه جنون الكتابة دون أن نُضْرِمَ له نارَ الشّوْقِ يَصْلاها قلبُه فيَتوَهَّـجَ بها قلمُه ؟ ألا عِشقَ يُعذّبُه ؟ ألا حَيْرَة تُؤرِّقه ؟ ألا شَكَّ يُطيحُ بما سَكَنَ فيه و يُشعِلُ ما خَمَدَتْ جَذْوَته ؟ " قال . و نَفَثَ في أذن الرّجل كلاما لا يَعْلمُه إلاّ هو .
حين استفاق الأديبُ من ذهوله شهق و هرع إلى بيته لا يَطلبُ دِثارًا بل يبتغي القرطاسَ
و القلم . في تلك اللحظة دمدمَ صوتٌ مُدمِّرٌ كهزيم الرّعد كادتْ تخرُّ من وقعه صخورُ الشاطئ " وَيْحَكُمْ ، أتتحَدَّوْنَ إرادَة السَّماء و تُعيدُونَ لِـدُودِ الأرض و حُفاتِها سُلطانَ القَوْل تُـسْبِغونَه على مَنْ لَـفَظَه طَوْعًا و كَرْهًا ؟ غدًا يُغويه بريق الخلق فيُدَانِي أبَانَا في ملكوته
و تتحقّق اللّعنة . "
كان قد انفَلَـتَ شيطانُ الكَـلِم و قُضِيَ الأمر و لا مَرَدَّ لمِدَادِ القلم .اعتلى قرصُ الشمس عرشه كما يفعل كلّ يوم و نفذَتْ خيوطُه إلى صفحة البحر فالتمعَ بها و تلألأ ، تراقصَتْ قطراتُ الطَلّ على وجنات الزّهور فأشرقتْ ألَـقًا و تمَطَّتْ الأشجارُ فأيقظتْ الطّيورَ في أعشاشها فتجَاوَبَتْ الأرْجَاءُ بأنشودة الحياة و استفاق البشرُ ليشهدوا ميلاد يوم جديد . كلّ هذا الجمال النّابض كان فوق كلّ غضب و فوق كلّ عقاب . لم يبقَ سوى التّسليمُ بدورة جديدة ، بفرصة ثانية ، رِسَالتُها .. الكتابَة .

lundi 1 mars 2010

لا تُطفِـئوا نور القمر

طال انتظارها لإنتاجه الجديد ، منذ افترقا لم تقرأ له شيئا . و لمّا زاد صمته عن حدّه توجّست أن يكون مكروها أصابه فصارت تستخبر عنه الرّفاق في غير مبالاة علّها تظفر بيقين أو ما يكدّر اليقين.
قالوا انقلبت عنده الموازين، أو هي اعتدلت لسنا ندري فلحيته طالت و كذلك وجومه و مكوثه في الحانة، و قصر خطابه و ابتسامه و ساعات نومه. أنباء تغمّ و لكنّها في قرار مكين منها توقّعت بشيء من السّرور ترعرع جنين في رحم تلك الحالة المنقلبة أو المعتدلة سيّان، كلّ خلق يسبقه مخاض.
حين تركته منذ سنتين لم تكن تخشى أن يضع حدّا لحياته في لحظة يأس، و لا أن يهيم على وجهه بأعتاب المساجد طالبا الهداية و لا أن يتنكّر للحبّ فيُعلن الحرب على الأجساد يلوكها ليلا و يلفظها عند الفجر .. كلّ ما كانت تخشاه هو أن يكفر بالإبداع فيتوقّف عن التنفّس و في ذلك موته و إن لم يضمّه لحد. سنتان قضّتهما في التردّد على دار النّشر التي تُصدر له، تسأل هل وصلهم مخطوط عمل جديد فيجيبون بالنّفي .. يجفّ حلقها و هي تنزل السلّم بسرعة كمن تلاحقها الأشباح، و تتعثر في الدّرجة المكسورة. و في كلّ مرّة نفس الإحساس بجفاف الحلق و نفس العثرة في نفس الدّرجة حتّى توقّفت عن الذّهاب و لم تفقد الرّجاء.
خطر لها أن تعرّج على مكتبة "الحاج" حيث كانا يلتقيان كلّما صدر له كتاب جديد. مكتبة قديمة تقع عند مفترق زقاقين في قلب المدينة العتيقة حَوَتْ كلّ نادر و نفيس مع حرص صاحبها على توفير الإنتاج الجديد و لكن بعد اختيار مرضيّ، تزدحم الرّفوف بالفهارس و دواوين الشعر و مجلّدات في النّقد و الفلسفة و التاريخ و الفقه و اللّغة. و كان "الحاج" لا يفوّت زائرا جديدا إلاّ و أطلعه بكلّ فخر عن النّسخة النّادرة للسان العرب التي أهداه إيّاها صديق عراقيّ له، و يروي له أطوار زيارته في الستّينات من القرن الماضي إلى بلاد الشّام و فلسطين و كيف كانت دور الطّباعة و النّشر عامرة و يتحسّر على قيمة الكتاب الآخذة في التقلّص يوما بعد يوم. و مع ذلك تظلّ مكتبته مفتوحة لروّادها كامل اليوم إلى ساعة متأخّرة من المساء.
كانت تتعمّد الوصول قبل الموعد لتدخل المكتبة تعاين عن كثب مدى إقبال القرّاء على إنتاجه، عددهم، أعمارهم، هيآتهم.. و ترهف السّمع لأيّ تعليق و "الحاج" من خلف نظّارته ذات الإطار الأسود الغليظ يتابعها و تجاعيد وجهه تغالب ابتسامة حنان. حين تلتقي عيناها بعينيه ترتبك و تتظاهر باقتناء كتاب و ما إن تلمح عبر زجاج الواجهة حبيبها قادما يحمل تحت إبطه مجموعة نسخ من كتابه الجديد حتّى تقفز إلى الباب لاستقباله فيُلقي التحيّة على "الحاج" و يمضيان معا إلى المقهى التقليديّ المجاور و سرعان ما يتحلّق حولهما الأصدقاء و الطّلبة فينهمك في إمضاء الإهداءات و يحتدم النّقاش حول الكتاب و لكن نادرا ما تصدر عن بعضهم ملاحظة حول رسم من رسومها، و كم كان يعذّبها تهافت الفتيات عليه و مزاحهنّ معه و تغيظها مجاملته لهنّ فتنكمش في مقعدها و تلعن في سرّها زحمة الأصدقاء. كانت تقنع نفسها أنّ ما يختلج بداخلها لم يكن غيرة من نجاحه بل مجرّد نقمة على هشاشة حضورها. و تعلو التعليقات و الضّحكات حتّى أنّ سيجارته تنطفئ أكثر من مرّة أو تقع عن منفضتها دون أن يشعر بها و يستمرّ ذلك كلّه حتّى يحلّ الظّلام. فيمسك بيدها و يسيران جنبا إلى جنب عبر أزقّة المدينة العتيقة إلى أن يبلغا شقّتهما الواقعة على مشارف الحيّ العصريّ. هناك يكون للاحتفال طعم و رائحة و لون، اسطوانة لمعبوده "جاك برال" و بعض كؤوس النّبيذ و ليلة حبّ. هكذا كان دأبهما في شتاء الأيّام و في صيفها، في أزماتها و في رخائها. هو يكتب و هي ترسم كلماته لتتربّع رسومها على غلافات كتبه حتّى كان يوم أحسّت فيه أنّها كوكب صغير يدور بدون غاية في فلك الشمس العظمى فقرّرت أن تكون لنفسها و تصطنع لذاتها مدارا فانفصلت عنه و انشغلت بإعداد معرضها التشكيليّ الأوّل.
اليوم مرّت كعادتها أمام مكتبتهما الأثيرة، وقع بصرها عليه. هكذا ميّزته من بين الجميع، هاتف ما خطف منها البصر و الإدراك فرأته يتوهّج عنوانه بانعكاس الشمس على بلّور الواجهة و اسم مؤلِّفه يتلألأ أسفل منه في خطّ أرقّ، غلاف أنيق و لكن بدون رسم، حجم صغير على غير العادة لكنّها لم تكترث المهمّ أنّه أنتج. اقتنت الكتاب على عجل خشية أن تصادفه فتضعف إن هي لقيته و ينهار مشروع مدارها الذي تسعى لخلقه. تركت المدينة خلفها و قصدت مقهى يقع على شاطئ البحر ترتاده كلّما رامت الاختلاء بنفسها، طلبت فنجانيْ قهوة و دفعت بثمنهما إلى النّادل حتّى لا يفكّر في إزعاجها و فتحت الكتاب.
" ... تريدون معرفة مضمون الكتاب؟ لن تظفروا منّي بشيء. انظروا في أنفسكم ففي باطن كلّ منكم كتاب، تحسّسوه و اقرؤوه و افهموه قبل معرفة كتب الآخرين و لتعلموا أنّ الكواكب الوحيدة النّائية لا تضيء إلاّ لنفسها و أنّ المتجمّعة فقط هي التي تنعكس أنوارها على بعضها فتتوهّج بها و تتلألأ، لا باثَّ و لا متقبِّل بل كتلة من النّور تزيح ظلمة الكون الكئيب. مذ غاب قمري انطفأت فلا أنا أرى نفسي و لا أنا أنير لغيري فأستنير ... " أغلقت الكتاب و سرّحت نظرة شاردة منها إلى الأفق البعيد، كلماته نفذت كالشّفرة الباردة إلى عمق أعماقها فنزفت زنابق و ياسمين.
تبّا لك أيّها الشقيّ، ماذا فعلت بي و بنفسك؟ كم هو جبّار حبّك هذا، توهّمت لسنتين أنّه حرّرني فإذا به يستعيدني كأعنف ما يكون تماما كسلطان المخدِّر لا خلاص منه إلاّ به.
تركتْ المقهى و ركضت إليه. شيء ما جعل قدميها تقودانها إلى مكتبة "الحاج" من جديد. في مدخل الزّقاق لمحته واقفا في ثلّة من الرّفاق و تشابكت العيون قبل الأيدي. عانقها مغادرا حلقة الأصدقاء و هو يهتف : " انتهى اللّقاء، نزل اللّيل و سطع القمر " و تركهم يحملقون في الشمس المتوهّجة في كبد السّماء
.