samedi 21 décembre 2013

ميـزيـريـا 13


من بكري ياخذو منّي و يعطيو للاخرين، مالصّغرة ما نسمع كان " خلـِّي لخوك.. أقرا حساب أخوتك.. أعطي معاك لبنت عمّك..." في المكتب صوت المعلّم ديما فوق راسي " فرجاني، حطّ كتابك في وسط الطاولة.. خرّج مقلمتك خلّي صديقتك تلوّن معاك.. أعطي لاصحابك تلخيص القصّة الّي كتبته.. ورّيهم ملفّ المطالعة..." في حفلة السّيزيام نحّاو لي شطر جايزتي( كيف كان السيزيام صفـّاية و كانت الجايزة أرزن منّك) و عطاوها لولد المدير المدوبل قال شنوّة باش يرفعو له معنويّاته. ثنيّة كاملة مالمكتب للدّار و أنا نبكي و الوالد يسكّت فيّ و يقلّي "أنا نشريهم لك". هو وقتها ما عرفش إلّي مانيش نبكي على الكتب ( مش ناقصة كتب في الدار) و أنا في العمر هذاك ما نعرفش نعبّر على القضايا الكبيرة، لكن بكيت على خاطر سلبوني استحقاق، إعتراف من "السّيستام" بمجهود أنا لمعت فيه و استحقيت عليه مكافأة حتّى حدّ ما عنده الحقّ يقسمها معايا على خاطره ما قسمش معايا المجهود الّي استحقّيتها عليه. هكّة كنت نفكّر. و زيد دردعو لي مبدأ ثابت في مخّي وقتها هو إذا المدوبل ياخذ جايزة، شنوّة الفرق بين الناجح و الفاشل؟ جايزة آخر العام بكتبها الكبيرة، المسفّرة بذخامة و عناوينها المذهّبة، و مغلّفة و مزيّنة، و إسمك كي يتقال و يصفّقو عليك المعلّمين و أولياء التلامذة و عايلتك الحاضرة معاك و أنت بحوايجك الجدد واقف قدّام المنصّة... حلم نخدمو عليه عام كامل. عامتها عرفت إلّي موش لازم تقرا و تلهث و تنجح باش توصل للحلم هذا، يكفي تكون ولد مدير. كلّ الكلام الّي كذبو بيه علينا نهارتها ماعادش يجدّ عليّ من نوع " الجزاء من جنس العمل.. من جدّ وجد و من زرع حصد.. من اجتهد و أصاب فله أجران..." و هاك اللغة الكلّ كفرت بيها، نهارتها طاحت ثيقتي في الكبار و المؤسّسة و كلّ ما يمثل النظام، و بديت نتكمّش على حقوقي و نتعلّم إلّي الحقّ يلزمه حاجتين: المطالبة و الدفاع. نهارتها كبرت. و تأكّدت إلّي الطفولة الزاهية وفات و التخبية تحت جناح الوالد الحامي عَجْز، و إنّك تخدم في نبل و تقعد تستنّى حتّى يعترفو بحقّك حاجة أقرب للتبهليل منها إلى الوهم، نهارتها تيقنت إنّي قادمة عليه معركة بالمعنى الصحيح.
من ناحية أخرى ينجّم يقول القايل باهية تربية الصغير على المشاركة و القسمة و الخدمة الجماعيّة، حاجة تمنّعه من أمراض الأنانيّة و تضخّم الأنا و حبّ التملّك الّي في الغالب يتنعوشو في مرحلة الطفولة كي ما يلقاوش شكون ينجّر. لكن هذاك كي تبدا مشاركة بالحقّ موش واحد حياته كاملة يعطي و نهار الّي ياخذ حاجة و إلاّ يقول هذي متاعي تتقلب له العينين الكلّ. كيف ما تعمل بحث وحدك على أيّ موضوع، و تنقب عينيك في الكتب و تألّف و تترجم و تسهر عليه الليالي و تخرج للشارع تعمل سبر آراء و تتعرّض للكشّة و للتمقعير و للتبلفيط و أنت جايب ما عندك و في لخّر يجيو ستّة مالنّاس لا بالك لا وسّع يحطّو أساميهم معاك. تبوريب، حشمة، ضعف... سمّيه كيما تشتهي، الأكيد أنّه معضمنا تعدّى بالتجربة هذي و سكتنا على خاطر الصّحبة و يمكن على خاطر التلامذة في بعضنا كبّانيّة في وجه الأستاذ الّي يمثـّل السّيستام. لكن بسكاتنا على حقنا في العمر هذاك ما كنّاش نعرفو الّي الامور باش تتفاقم حتّى نوصلو لناس تعمل انتفاضة و تموت فيها و تجي على جثثهم ناس تتمتّع بالمناصب.

mardi 26 novembre 2013

سَـــــــفـَـــــــر


يمتلئُ القلبُ بالحقد، بالألم و الغضب، و طعمُ الغضب في فمي. 
 أنا مثل لطخة حبر وقعتْ على بياض، أقعُ في الشكّ، عندها أفتح الرّواية كي أتذكّر نفسي.
التذكّرُ عندي عبارة عن عبادة سريّة.
قبل أن ينتشر الضوء كنتُ عبارة عن زينة في أحجار جدارك، قبل أن تعزف على أوتاري بالقوس الذي في يدك كنتُ دائما الرّبابة التي تعزف النّغمة نفسها و تكون غريبة عن صوتها، أنا أرى في كفـّها أشجارا و حدائق و مياها واسعة مثل البحار و لامعة. أنا أرتاح في ظلّ الأشجار التي تنبت في كفـّها لكن أنتَ لا يمكنك رؤية أيّ واحدة منها.
أنا أعلمُ من أكون و لكنْ.. هل تعرف أنتَ أنّني الشمس؟ ربّما لا تعرف.
أنا الشمسُ التي تخلـّتْ عن هالتها لأجلك، أنا شجرة الكستناء التي تجرّدت من أوراقها لتفرش لكَ دربا فدستَها مزهوًّا بحفيف أنينها و لم تحفظ إحداها بين صفحات دفترك، و كان يكفيها لو انحنيتَ فتلثمَ طرفَ ثوبك.
أنا الفراشة التي تحوم حول النار، كلـّما اقتربتُ منك ذابتْ أجنحتي و صفـَّّاني اللـّهب، أنا فراشتك و صديقة دربك. وُجدنا ذات يوم في رواق، مشينا سويّة في الشوارع و السّاحات، أحببنا و فرحنا و سكتنا و ضحكنا و حلمنا، لم نمرَّ بمدن أو طرقات أو مواسم أو سنوات بل مررنا بعمر.
التفِتْ وراءك و انظرْ، كلّ شيء مَـرَّ و بقيتْ الصداقة. أقول هذا لنفسي و أكرّره مرارا، أقول.. عندما يأتي الموت و يجدني حتّى بآخر لحظة لي، لا أنسى.
عندما كنتُ شابّة كنتُ أرى الموتَ كوداع للحياة.
من يذهب إلى الموت رغبة و طواعية؟
من يتعرَّى أمام التـنّين؟
يا من يرون الموتَ ابتعِدوا، يا من يرون البعثَ أسرِعوا.
مَن يرى الموتَ كدلفين، يَفدِي روحَه، أمّا من يراه ذئبًا فينحرف عن الحُلم.
كلُّ شخص يموت حسبَ لونه، عدوٌّ للعدوّ و صديقٌ للصديق.
هكذا تفترق طرقاتـُنا و كلُّ سطر منذورٌ لك.

dimanche 24 novembre 2013

تـأمّلات في الأدب التونسـي - نصّ مترجَم -



إنّ التطرّق إلى مفهوم الأدب في المجتمع التونسي يقودنا حتما إلى إثارة مسألة النصّ المكتوب لدى مجتمعات المشافهة في العالم العربي الإسلامي. ذلك أنّ "المكتوب" و من ثَـمَّ "المقروء" يحيلان على حقول دلاليّة ثلاثة: أوّلها النصّ المقدَّس متمثلا أساسا في القرآن، فالحديث ثمّ كلّ ما تعلّق بهما من نصوص ذات مرجعيّة دينيّة و منها آثار الصوفيين. هذا الحقل الدلاليّ الأول أفرز ثانيا ماثلا في تلك الأشكال من التطبيب ذات البعد الوثني لإزالة الأمراض أو سوء الحظّ و التي كان يمارسها ما لـُقّب "بالعَزّام" و التي تحوّلت من الفعل الرمزي لاستقراء الغيب و هو ما عُرف "بحَلان الكتاب" إلى كتابة الرُّقَـى و التمائم وصولا إلى أعمال سحر خبيثة. و أمّا الحقل الدلالي الثالث و الأهمّ فهو تحرير العقود و هي نصوص منظِمة للزواج و الملكيّة و الوفاة و الميراث.
في مجتمع المشافهة حيث يكون الارتكاز على الشعر و القصّ و رواية تاريخ الأنساب و الأحداث، تقتصر الحركة الفنيّة على طقوس الخطاب و التواصل في التجمّعات البدويّة و هي ما اصطـُلحَ على تسميتها "الميعاد" أو في كنف حلقات الرّواة في المقاهي الحضريّة و من ثَمَّ بروز ظاهرة "الفداوي"، إذ أنّ تعلّم القراءة و الكتابة كان ضربا من الرّفاه لا يتأتَّى إلاّ لمن واتته الظروف الماديّة. و كان الغرض من ارتياد الكتاتيب مقتصرا على تملّك المبادئ الأساسيّة التي تمكّن صاحبها من أداء شعائر دينه أو تهجئة بعض الوثائق بغاية حسن إدارة شؤون العائلة. و كان الجلوس للتدريس خاضعا لنظام عشائريّ حيث وحدهم أبناءُ "الزّاوية" أو "الفـُقرة" هم المؤهَّلون. أمّا الحصول على خطّة كاتب عدل فقد كان يتطلّب تضحيات ثقيلة لا قِبَل بها إلاّ للميسورين. كان "التبحّر في العلم" الذي تضمنه المؤسّسات الكبرى كالزيتونة حضوة لفئة من الأسر المتعلّمة و هي في الغالب ذات صلات وثيقة بالسلطة السياسيّة و الدينيّة في البلاد، كذا تتوارث العائلاتُ خطط القضاء و الإفتاء و مشيخة الإسلام. و هذا ما عمّق القطيعة صلب المجتمع التونسي بين ثقافة شعبيّة يمليها التراث و طقوس التقليديّ و بين النّخب السياسيّة و الدينيّة المتعلّمة.
ما من شكّ أنّ ظهور تقنيات الطّباعة ساعد على التأسيس لعادات سماع جماعيّ لدى الشرائح الشعبيّة في المدن إلى قرّاء الكتب المشهورة آنذاك كألف ليلة و ليلة و سيرة عنترة بن الشدّاد و سيف بن ذي يزن و غيرها من المؤلّفات الشعبيّة المزدانة برسوم لأبطال السّيَر حيث اختصّت بعض دور النشر في طباعتها و تسويقها بأثمان زهيدة.
تلك كانت المحاولات الأولى لإدراك الذات و التي ستفرز إرهاصات الفكر الإصلاحي حيث تتنزّل قضيّة الهويّة في مجابهة "الآخر" المهيمن متمثلا في القوة الغربيّة من جهة، و خاصّة في مجابهة انهيار الدولة و مظاهر الخصاصة و عجز النّخب و السلطة و الأفراد عن مقاومة "الدّخيل" من جهة ثانية. و تعود جذور هذا الفكر الإصلاحي إلى أواسط القرن التاسع عشر مع كوكبة من شيوخ الزيتونة لعلّ أبرزهم الشاعر محمود قابادو (1812-1871) و المؤرّخ أحمد بن أبي الضياف (1804-1874) و محمد السنوسي (1850-1900) و محمد بيرم الخامس (1840-1889) و سالم بوحاجب (1827-1924) الذين ألّف بينهم قاسم مشترك و هو توجّه إصلاحيٌّ يروم الانفتاح على الحضارة الغربيّة مع الاكتفاء منها بما يتماشى مع روح الشريعة الإسلاميّة. و يبدو للأسف أنّ المشروع الإصلاحي لخير الدين التونسي و إنشاء المدرسة الصادقيّة جاء متأخّرا نظرا لانحطاط الدولة و إفلاس علاقات السلطة المركزيّة سواء بممثليها أو بالرعيّة المسحوقة تحت الأحكام الجائرة. و حَلَّ الاستعمار ليعمّق تبعيّة البلاد و فقر الشعب الذي وجد رموزُه أنفسَهم منعزلين قليلي الحيلة تجاه محتلّ يملك من العدّة و العتاد ما يفوق كلّ اعتبار، فتفاقمت القطيعة بين النّخب و المجتمع خاصّة النّسيج العشائري التقليدي في المناطق الداخليّة للبلاد. و لم تأخذ هذه القطيعة في الاضمحلال إلاّ مع انبعاث "الخلدونيّة" و "قدماء الصادقيّة" حيث كان الهدف المشترك للجمعيّتين هو مقاومة الجهل قصد تغيير العقليّات، ناهيك عن جهود الزيتونة في محاولات الإصلاح إمّا بمناقشة محتوى برامج الجامع الأعظم أو بإثارة موضوع الخصاصة التي يعيشها تلاميذه. في هذا الخضمّ كانت مسألة اللغة العربيّة و الدفاع عنها كعنصر هويّة ضدّ الاستعمار نقطة التقاء بين مختلف الاتّجاهات بغرض تشكيل قاعدة سياسيّة ثقافيّة و فنيّة أسّس لها مؤتمر دام أيّاما خمسة ترأسه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور و أكّد على ضرورة الاستقلاليّة الأدبيّة و قدرة اللغة العربيّة على التأقلم مع الحداثة. و رغم أنّ الفكر الإصلاحي يستمدّ مرجعيّته من الثقافة الأوروبيّة فقد كان الهدف من التيّار الدّاعي إلى بعث حركة صحفيّة و جمعيّات أدبيّة و فنيّة هو نشوء الخصوصيّة التونسيّة انطلاقا من هويّتها اللغويّة و الدينيّة. و هذا ما أوقع نخبَ تلك الفترة في حيرة بين جذورهم التقليديّة و بين تأثيرات المدرسة الفرنسيّة و الثقافة التي تحملها، و كذلك تأثير قادم على مهل من الشرق الأوسط و خصوصا مصر. و قد اخترقت هذه الانقسامات مؤسّسة الزيتونة نفسها حيث اضطلع شبابُها ممثلين في الطاهر الحدّاد و أبي القاسم الشابّي بخطاب تجديديّ سواء على الصّعيد الأدبي أو الاجتماعي عبر سلسلة من المحاضرات و النقاشات، الأمر الذي أفضى إلى حركيّة غير مسبوقة صلب النّخب رامية إلى أفكار جديدة تترجم وعيَ رجالات الأدب بأنّهم مدعوّون إلى مجابهة التحدّيات الاستعماريّة و الوضعيّة الاجتماعيّة عموما. لقد أثارت المحاضرة التي ألقاها الشابّي على منبر قدماء الصادقيّة في غرّة فيفري 1929 جدلا حادّا. و لا شكّ أنّ لقاء الشابّي و الحليوي و البشروش خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين، ثمّ بروز جماعة "تحت السّور" مع الدوعاجي و كرباكة و العريبي و خريّف و الجندوبي و بن فضيلة و العروي و محمود بورقيبة و محمّد المرزوقي و الهادي العبيدي و محمود بيرم التونسي و زين العابدين السنوسي و غيرهم، إضافة إلى انطلاق الحركيّة الصحفيّة و الأدبيّة، مقوّماتٌ أدّت إلى ميلاد تيّار إبداعيّ تأسيسي غذته عواملُ وفاقهم و خلافهم على حدٍّ سواء في حقبة من تاريخ تونس تهدّدتها الهزّات الإيديولوجيّة و الخصاصة الاجتماعيّة و ضيق الأفق. كانت تلك المرحلة الزاخرة بالتأليف علامة مرجعيّة مميّزة لقسم مهمّ من الأدب التونسي المعاصر. طبع هذا المجتمعُ المصغّرُ فترةَ الثلاثينات حتّى نكاد لا نميّز في أجناس الإبداع بين الصحافة و الأدب و الشّعر الفصيح منه أو العاميّ، و تجدر الإشارة إلى ظهور نوع من النقد في الكتابات الأدبيّة و الصحفيّة السّاخرة المستقاة من الثقافة الشعبيّة الفـَـضَّة قد اتـُّخِذَت سلاحا في وجه المستعمر و رموزه و حلفائه و استُخدمت في فضح كلّ أشكال الظلم و التهميش التي يتعرّض إليها الشعب، و لعلّ خير مثال جريدة "الزّهو" للحاج عثمان الغربي حيث نُشرت قصائد الشاعر الملتزم عبد الرحمان الكافي. هكذا تميّزت تلك المرحلة بإنتاج أدبيّ حمَّال لنفَس متمرّد و منحاز إلى صفوف المفقَّرين فظهرت الرواية و الأقصوصة عبّر فيها عن طموحات الشعب مؤلـِّفون لم تستـثنهم ظروفُ التسكّع و الانبتات.
التفّ الحراكُ الثقافي حول "الثريّا" بعد الحرب العالميّة الثانية، ثمّ حول مجلّة "المباحث" لمحمد البشروش و التي تسلّمها محمود المسعدي و ثلـّة من الصادقيين كعلي البلهوان و محجوب بن ميلاد و محمد السويسي و الصادق مازيغ... روّاد التكوين الحداثي المنفتح على الثقافات الغربيّة، المتشبّث اتّساقا بالخصوصيّة التونسيّة كعنصر تصدٍّ للاحتلال. و قد غذّى هذا التيّارُ الأدبَ التونسي في مرحلة تاريخيّة دقيقة بمؤلّفات هامّة من قبيل "مولد النسيان" و "حدّث أبو هريرة قال" و كذلك بترجمة آثار من الآداب العالميّة. نعم لقد وُلد من رحِم رحلة البحث في الذات التي خاضتها النخبُ التقليديّة و الحداثيّة، أدبٌ تونسيّ، رغم عوائق الأميّة، يروم النّـفاذَ إلى مجتمع مسكون بهاجس المعيش المضنِي ،مغرق في صراعه السياسي ضدّ المحتلّ.
في شكل جديد من البحث اتـّخذ منحى تأكيد الموهبة الفرديّة، ظهرت غداة الاستقلال "رابطة القلم الجديد" التي جذبت إليها جيل الشباب و هم ثمرة النّظام الوطني القائم أساسا على تعميم التعليم و إرساء المدرسة العصريّة حيث تتصالح البلاد مع لغتها و تاريخها و ثقافتها. فجاءت مجلّة "الفكر" التي أسّسها محمد مزالي بمعيّة بشير بن سلامة استجابة لانتظارات شباب الروّاد ممّن تربّي على تعليم تتعايش فيه العربيّة و الفرنسيّة بتناغم رائع. و حول مجلّة "الفكر" ستتجمّع قاماتٌ طبعت الأدبَ التونسيّ، و صارت المجلّة منبرا لفكر تحديثيّ انخرطت فيه مجموعة مواهب جديدة من جيل الاستقلال المتأثر بالثقافات الحديثة و الفكر العالمي. لم يعد الأدب جنسا على حدة بل عاضدته أشكال تعبير فنيّ موازية من قبيل المسرح و الموسيقى و السينما و الرّسم. إنّها مرحلة الانتقال من مفهوم الحياة الأدبيّة التي عرفتها الثلاثينات و الأربعينات إلى مفهوم الحياة الثقافيّة. و لعلّ أهمّ ما ميّزها عودةُ الطلبة التونسيين من الكليّات الفرنسيّة ليضطلعوا بمهامّهم في الجامعة التونسيّة يتزعّمهم فريد غازي، توفيق بكّار، المنجي الشملي و صالح القرمادي، فظهرت "الحوليّات" و "التجديد". و لقد سمح القطعُ مع صراع الأجيال ببروز شراكة جديدة تمثلت في تلاميذ المعاهد ممّن سيؤسّسون لنمط حديث من المسرح التونسي.
أقام عزّ الدين المدني جسرا بين جيل الأوائل (القرمادي،بكّار،بلخوجة،غازي) و جيل سمير العيّادي و علي اللواتي و رضوان الكوني و فاضل الجزيري و رجاء فرحات و محمد القرفي. كان مؤلّفه "الإنسان الصّفر" أحد أشكال التجديد في مواجهة كتابات خريّف المتجذرة في الثقافة الشعبيّة مثل "الدقلة في عراجينها" أو "برق الليل" من جهة، و كتابات القرمادي حيث تتزاوج الفصحى و العاميّة في اقتدار لغويّ من جهة ثانية. ثمّ نشأ نادي أبي القاسم الشابي للأقصوصة بإدارة العروسي المطوي و أسهمت مجلّة "قصص" في ازدهار فعليّ للرواية و القصّة القصيرة التونسيّة.
شهدت الحياة الثقافيّة في فترة الستّينات عزوفا تدريجيّا عن مقاهي المدينة العتيقة و الأرباض المحيطة بها و التي كان يؤمّها أدباء الثلاثينات، و بدأ الإقبال على مقاهي الحيّ العصري بشارع فرنسا و شارع الحبيب بورقيبة حيث يجتمع الشعراء و الصحفيّون و الرسّامون و رجال السينما و المسرح. و أحدث قدوم علي بن عيّاد على رأس فرقة مدينة تونس للمسرح انقلابا في المشهد المسرحيّ أطاح بالأشكال التقليديّة الخفيفة القديمة، فكان الحدث مسرحيّة "مراد الثالث" ثمرة لقاء ثالوث مبدع ضمّ علي بن عيّاد و الحبيب بولعراس و زبير التركي في مأساة تروي عن الحكم المطلق في حقبة من تاريخنا. أتاح هذا العملُ المجالَ واسعا أمام الخلق المسرحي كأحد مقوّمات الأدب التونسي، فرأتَ النورَ مسرحيّة "الحلاّج" و مسرحيّة "الزنج" حيث برع عز الدين المدني ببلاغته في سبر الإرث التاريخي العربي. و كنتيجة حتميّة لهذه الحركيّة الشبابيّة فتح نادي القصّة بالورديّة – بدعم من القدماء كالطاهر قيقة و البشير خريّف و العروسي المطوي- أبوابَه لمواهب شابّة كحسن نصر و سمير العيّادي و محمود طرشونة و محمود بلعيد و عروسيّة النالوتي، و قد سبق أن كان للمرأة حضورٌ في الساحة الأدبيّة.

لعلّ عشريّة الستينات أهمّ ما تمخّض عنه القرنُ من أحداث فاصلة. فحرب الفيتنام و الثورة الثقافيّة الصينيّة و حرب العصابات في أمريكا اللاتينيّة و انتفاضة الجامعات من كاليفورنيا إلى برلين و أخيرا أحداث ماي 68، كلّها عوامل أثـّرت في العمل الثقافي و السياسي على وجه الخصوص. فقد كانت النزعات القوميّة و الاشتراكيّة ماثلة في الآثار الأدبيّة التونسيّة و نذكر منها "بودودة مات"1962 لمحمد رشاد الحمزاوي، "التوت المرّ"1967 لمحمد العروسي المطوي، "يوم من أيّام زمرا"1968 لمحمد صالح الجابري، ثمّ أعمال بحوث معمّقة في المخطوطات و الذاكرة الجماعيّة قادها الثنائي محمّد المرزوقي و الجيلاني بالحاج يحيى فكانت "معركة الزلاج"1964 ، "أبو الحسن الحصري القيرواني"1963 ، و "خريدة القصر و جريدة العصر"1966 .


ثمّ تحلّ السبعينات تأكيدا للتوجّه نحو الانخراط في الحداثة المنفتحة على العالم التي أطلق شرارتها جيلُ الاستقلال. كان مثَـقف السبعينات عَدا تجذره في الانتماء إلى الهويّة التونسيّة، توّاقا إلى قيم التقدّميّة، مطّلعا على التطوّرات الحاصلة في الحركات الفكريّة و الأدبيّة العالميّة شرقا و غربا، متفاعلا مع قضايا الحريّة و الكرامة، متأثرا بواقع عربيّ مثقل بوجع القضيّة الأمّ:فلسطين. فوجد جيلٌ جديدٌ من الشعراء أمثال الطاهر الهمّامي، الحبيب زنّاد، مختار اللغماني، فضيلة الشابي، محمد أحمد القابسي و نور الدين بن عزيزة ترحيبا من مجلّة "الثقافة" الصادرة عن دار الثقافة بن خلدون، و من مجلّة "الفكر" و كذلك من مجلّة "قصص" عن النادي الثقافي بالورديّة. و مكّنهم هذا من الالتحاق بالقدماء كجعفر ماجد و نور الدين صمّود و الميداني بن صالح. و كان من المتوقـَّع أن يتولّد عن هذا المزيج تنافسٌ بين المدرسة الكلاسيكيّة المحافظة و بين روّاد الشعر غير العمودي و الحرّ، تطوّر إلى جدل جول قضايا اللغة و التراث و الالتزام زاد في تأجيجه صدورُ ديوان "اللحمة الحيّة" لصالح القرمادي سنة 1970 .
و يمكن القول إنّ السبعينات كانت بلا منازع فترة الشعر الملتزم إذ تكثفت الأمسيات الشعريّة في الكليّات و المبيتات الجامعيّة و الفضاءات الثقافيّة، بل على ركح مهرجان قرطاج الذي قدّم عروضا لفرق موسيقيّة ملتزمة ساهمت في ولع التونسي بالشعر. و يعود الفضلُ إلى تلك السّنوات في شهرة شعراء كالصغيّر أولاد حمد و المنصف المزغنّي و آدم فتحي و محمد العوني و عبد الحميد خريّف.
و لم تشذ الولايات الداخليّ عن هذه الحركيّة فقد عَرفت القيروانُ شعراءَ مجدّدين أمثال المنصف الوهايبي و محمد الغزّي و جميلة الماجري و خالد النجّار إضافة إلى الرّوائي حسّونة مصباحي و بدعم من الشاعر و الناقد علي اللواتي. تميّزت مدرسة القيروان بمنحًى رمزيّ ذي مرجعيّة تراثيّة مستوحاة من تاريخ المدينة الموغلة في القيم الإيحائيّة الصوفيّة. و بالتوازي تشكّلت في صفاقس نواة شعريّة ضمّت عبد الجبّار العش و نور الدين بوجلبان و المنصف المزغنّي و غيرهم و بدؤوا في تنشيط النادي الأدبي و دار الثقافة.
طـُبِع المشهدُ الشعريّ في أواخر السبعينات باتّجاهات ثلاثة:
- تيّارٌ واقعيّ يمثله الشعرُ الملتزم المنخرط في النضال الاجتماعي إلى جانب الطبقات المحرومة.
- تيّار ترميزيّ ماثل في مدرسة القيروان.                                  
- اتجاه تحديثيّ من أجل شعر حرّ بقيادة أولاد حمد، محمد العوني و سوف عبيد.           
و يجدر التذكير بأنّ فترة السبعينات شهدت أيضا انتعاشا مسرحيّا بحكم ظهور أولى الجمعيّات المسرحيّة الخاصّة.
لا جدال في أنّ الحياة الثقافيّة حققت نقلة نوعيّة مع إنشاء المعرض الدولي للكتاب في بداية الثمانينات ممّا دفع إلى اتخاذ تدابير للتشجيع على الإنتاج الأدبي و النشر و ازدياد المنتديات و الفضاءات و المهرجانات الأدبيّة. و بمساهمة هامّة من الجامعيين و المختصّين في التراث و التاريخ و علم الآثار و المخطوطات صارت الدراسات و الرّوايات و الدواوين و مؤلفات في التراث و علم الاجتماع و أدب الطفل تؤثث المكتبة التونسيّة و أجنحة معرض الكتاب.

سُـئِل كاتب ياسين عن سبب اختياره الكتابة بالفرنسيّة فأجاب: " اللغة الفرنسيّة عندنا غنيمة حرب." كيف لا و قد كان الجرحُ الذي خلـّفته حربُ التحرير في الجزائر في نظره أعمق من أن يندمل، فمن الطبيعي أن يُمعِن إلى حدّ الوهن في استخدام غنيمة حربٍ كان ثمنُها باهظا.
كانت الفرنسيّة لدى أغلب مستعمليها من شعراء أو كتّاب أو صحفيين أو باحثين سواءً للضرورة المهنيّة أو للمتعة المحضة، مقارَبة في إطار التوافق المصلحيّ. و على عكس ما تنبَّأ به أحمد مامي من "موت سريع" فالأدب التونسي النّاطِق بالفرنسيّة من "العيون السّود"1943 لمحمود أصلان حتّى أيمن حسّان قد بلغ مستويات محترمة سواء بفضل المؤلفين المغتربين أو المقيمين داخل الوطن أمثال عبد الوهاب المؤدب أو مصطفى التليلي دون إغفال الأقلام النسائيّة كسعاد قلّوزو علياء مبروك و آمنة بالحاج يحيى و هالة الباجي.
أمّا الشعر فستحمل لواءَه بعد الفقيد صالح القرمادي مواهبُ مثل منصف غشّام و سمير المرزوقي و مجيد الحوسي و الهادي البوراوي و الطاهر بكري و غيرُهم.


انتهت ترجمة نصّ الصّديق علي سعيدان الذي أشكره على تمكيني من ترجمة مقاله و الذي بحركة منه ربّما غير مقصودة قد نفض الغبار على عشقي القديم للغة الفرنسيّة. و يجدر التنويه بأنّه  ترك لي مطلق الحريّة لإضافة ما سكت عنه النصّ لكنّني ارتأيتُ أن تكون ترجمة وفيّة للنصّ الأصلي. أمّا الإضافات و هي كثيرة كإسهامات دور النشر التونسيّة في دفع الأدب التونسي، و تاريخ الفنّ الهزلي في تونس، التأريخ للحركة المسرحيّة التونسيّة بعلاماتها المميّزة كفرقة مدينة تونس و فرقة الكاف و فرقة قفصة، مساهمات المعهد الرّشيدي في رسم ملامح الفنّ التونسي، دور الإذاعة و التلفزة التونسيّة في الحراك الثقافي و الأدبي... و غيرها من المواضيع، فيمكن أن تـُفرد لها تدوينات لاحقة.                                           

vendredi 15 novembre 2013

ميزيريا 12


دار العجـــايــب


البارح وقّفت تاكسي، ركبت، في رمشة عين عدّيت عليه القلامة كانه بولحية نهبط و نخلّيها له واسعة و عريضة، لقيته تونسي عادي زوّالي حوايجه مهدرشة، وجهه مغوّف و حالته تـُكرب. الحاصل سلّمت و قلت له " باب الجديد من تالـَى أبو القاسم الشابّي، هبّطني قدّام كلينيك العيّاري" قال لي " الله يبارك" و نده. مديدة و قال لي " توّا باهي الكلينيك هذاك؟ " قلت في قلبي هذا بدا يبربش فيّ للحديث و أنا عازقتّه يمين ماعادش نحكي مع حتّى تاكسيست الّي عندي معاهم تاريخ قريب يغلب " أيّام العرب" متع الجاهليّة، أيا قلت عيب نحقر الرّاجل أما نبلوكيه باش ماعادش يزيد معايا و ينقص. قلت له " ماعندي عليه حتّى فكرة" سكت شويّة و قال لي " توّا أحنا عندنا طـُـبّة؟ في القدم والا في الجدد. تعرف أختي وقتاش يتسمّى عندنا طبّ؟ وقت الّي بنادم يتداوى من غير ما بدنه يتحلّ" قلت في قلبي إي معقول معناها أكبر الجرّاحين في العالم فطايريّة. ومنها تحلّ في العريض و بدا يبلّ و يرشق وحده و ما نحكيلكمش عاد على أسامي الدوايات كيفاش ينطق فيهم " تمشي للطبيب قريب تموت يعطيك باكو فالغون و يقلّك إرجع بعد شهرين، و لاخر يسألك آش عندك، وطبيبة قبل ما تعدّي عليّ تلبس غواندوات تقول باش تمسّ خنفوسة..." و أنا متلفتة للشبّاك ساكتة صابرة علّى عطاني ربّي و نسبّ في روحي بالمقلوب. قلت توّا يفرّغ المزود و يتهدّ. و اذا بيه يقلّي " ريتهم جماعة كلينيك العيّاري هاذوكم إلاّما نعمل لهم عملة كان ما يسكّرش الكلينيك بخطار" قلت في قلبي يا ستّار أستر يطلعشي السّخطة إرهابي و باش يفجّر الكلينيك؟" قال لي " أنا باش نعمل نصبة بجنب الكلينيك و باش نداوي النّاس الكلّ، أيّ مرض بحول الله عندي دواه، هذي ما فهمتهاش" و سيّب الفولون و تلفّت لي، و شدّ ما سيّب " لا لا قل لي هذي فهمتها و إلا لا، يظهرلي ما فهمتنيش..." بدات الغمّة تطلع لي و ماعادش فيها صبر و سكات قلت له " علاش متصوّر كان أنت الّي تفهم؟" و يا ليتني ما تكلّمت، الرّاجل تقول استدعيته لوتيل خمسة نجوم، شاخ و تحلّت له الشاهية للكلام، قال لي " بشويّة أختي ما تحمقش عليّ، هاو باش نفسّر لك، خاطر يظهر فيك ماكش فاهمة، ريته العبد الّي قدّامك؟ يجي نهار و تقرا عليّ في الجرايد و تسمع في الأخبار تونسي يتحدّى أطبّاء تونس موش تونس بركة أطبّاء العالم، توّا وحدك تقول هذا هاك التاكسيست الّي ركبت معاه..." وقتها تأكّدت إلّي الرّاجل واقع له مسكين و بهتت كيفاش يسوق و يخدم، و بديت نتغصور وقتاش نوصل لخربة العيّاري خلّي نهبط و يعنبو هالرّكبة و هو ساعة و يتلفّت لي " يحتمل بعد شهر بعد عام توّا تسمع بيَّ برّيت مرضى تونس الكلّ..." أيا وصلت، و أنا نخلّص فيه قلت مادامني هابطة نرمي له توّا كلمة تخلّيه يتهزّ و يتحطّ وحده؟ جيت باش نقلّه " أنا يا ولدي كافرة ما نمّنش بالدّجل و الرّقية الشرعيّة و الدّوا العربي" و من بعد سخّفني و قلت إلّي فيه مكفّيه و لو أنّه موش فاطن.

dimanche 10 novembre 2013

سَــــقـَـــــم






تأمّل الطبيبُ وجنتي و قال
في وجهك شحوب
العينُ مُجهدَة هالتـُها داكنه
و في نبضك هبوط. ألا تأكلين؟
قلتُ أهلي في القرى المُبعَدة
يموتون جوعا و سغبْ
سقوفهم سماء معتمة
و أرضهم حطب
كلّ أطفالهم يوسف
يأكلهم البرد و الذئب
على طريق المدرسة
..........
قال عليك أن تنامي
ففي النوم ارتياح
قلت سمّموه بأخبار الليل
و تكذيب في الصباح
..........
قال اكتبي
قلت هذه أمّة تكره الكتابْ
القلمُ فيها خطّة انقلاب
و الحرفُ رأسا يقود للسّرداب
و أنا جبانة
لا أقوى على السّرداب
 و لا على تركه بصندوق أو حِجاب
..........


قال أنصحُ برحيق القلوب
قلتُ الحبُّ في عرفهم كفرٌ مبين
في أمّتي تـُرجَم الحبيبة و يُترك الحبيب
و تـُنظم الأشعار في فراق العاشقين
يتلونها سرّا و يتبرّؤون بقولهم...
مجــانيــن
...........
قال فغيّري المكانْ
قلتُ في كلّ بلاد العرب يا سيّدي
أشعلوا النّيران
لم يحفظوا وليدا و لا عمران
قطعوا رأس المعرّي و أحرقوا الدّيوان
و عند الأجنبيّ نحن بين جاهل و مُدان
و أخشى أن أدفَن في غربة
بدون آية قرآن
...........
في أمّتي منذ ألف عام و يزيد
تناسل أصحابُ الأخدود
لنا كلّ يوم على أياديهم شهيد
و وعدُهم فروج و نهود
و جنّات الخلود
فأمّتي يا سيّدي تكافئ القميء و التعيس و الحقير و الذليل
و تنبذ الجليل
و أمّتي تفسد في الأرض و لا ترعَى رحِمْ
تاريخـُها كره و مجدُها نثارُ دمْ
...........
ملأ الطبيب كأسيْن
تنهّد و قال
فلنشرب إذا نخبَ هكذا وطنْ
لن تنفع الثوراتُ ما أفسده الزّمنْ

mardi 4 juin 2013

تــأبيـــن

     

رحَــلــتْ التــفـّــــاحــــــة

كنّا ثالوثا اجتمع فيه صدقُ الأطفال و جُهد الأبالسة إقبالا على الحياة لا يملّ، صفّقت القلوب لبعضها دون كثير كلام و كأنّنا على تعارف منذ الصّبا. رحلت بثينة أوّلا و لمّا تختم عقدها الثالث. باغتها الموت دون ضجيج فلبّت نداء الهاتف ذات مساء أحد، بين " آه " من ألم في الرّأس و بين إسلام الرّوح ساعتان. رحلت، و تركت وليدا في ربيعه الثاني و في قلوب الزملاء احتراقا. في فقدها اقتربت إحدانا من الثانية أكثر و كان في الصداقة و ذكرى رفيقتنا الرّاحلة عزاء و شحنة للأيّام القادمة. ثمّ التحق أصدقاء جدد تلاهم جدد، و مرّة أخرى تصفّق القلوب لبعضها، و سرعان ما أصبح الجدد أغلى على الرّوح من مهجتها. مرّت سنوات لم نشعر بطولها و لم يكن يعنينا عدّها فلنا في بعضنا حضن دافئ    و صدر يمكن أن تدفن فيه رأسك و تبكي دون خجل كلّما ادلهمّت الحياة، عيون تترقرق دمعا بدلا عنك، و مرح و ضحك وإضرابات و تعب و نقاشات و تهانٍ و ذكريات كثيرة صارت قطعة من العمر. كنت أرى ألفة وسط كلّ هذا بمثابة التفاحة، خضراء منتعشة متلألئة شبابا و صحّة و تسامحا و رقة و هدوءا حتّى في أحلك أزماتها. كانت زينة المجالس، و قلبا كبيرا و صبرا لا ينثني. كانت إذا أقبل الرّبيع تحمل إلينا الورود من حديقة بيتها لتزدان بها قاعة الأساتذة، أمّا روزنامة العام الإداريّ الجديد فمن إهدائها دائما، و كانت السبّاقة في كلّ جمع للمال إذا هممنا بتنظيم حفل توديع لزميل محال على التقاعد...


ماذا عساي أقول ؟ ألا سُحقا للبلاغة إن تخنّي الكلمات فلا أوفيك الحقَّ كلّه أو بعضه. لم تمهلينا شهورا طويلة كي نعودك و نكرّر لك الزيارات. بضعُ اسابيع في المستشفى عربد فيها ذاك الخبيثُ اللعين، كانت كفيلة أن تحدِث فينا الزلزال و البوصلة كانت أنت، و الثباتُ كان أنتِ. الأمر الوحيدُ الذي تأكّدتُ منه أنّكِ لن تطيقي سجن السّرير يا من كنتِ مقبلة على الحياة بملء الثغر و الذراعين، فرفرف منك الجناحان انعتاقا إلى عالم أروع حيث لا علّة و لا عناء.

بالأمس دفنوكِ، مدّدوا جنبكِ الغالي على التراب فكيف سيحلو لنا هجوعٌ بعدُ ؟ بكيناكِ اليوم أيتامًا، و التفتنا إلى أرجاء قاعة الأساتذة بحثا عنكِ فلا أدري إن كان هذا الصباح جزءًا من مماتك أم بقيّة لحياتك كما يكون الصمتُ بعد العزف جزءا منه. هل رأيتنا يا ألفة ؟ هل رأيت كيف تُذرَف عليك الدموع؟ حتّى تلاميذك أتوا لتوديعك، هل رأيت كيف واتاكِ يومٌ مشرق لا غيمة فيه ؟ كيف لا يكون و أنتِ الإشراقُ و الضياء. هل رأيتِ ماذا فعلتِ أنتِ و بثينة بي؟ غادرتما رحيلا تلو الرّحيل و تركتماني وحيدةً زاوية محطَّمة لثالوث انفرط عِقدُه، رحلتما ياقوتة و زمرّدة و بقيتُ هنا زجاجا مهجورا، فيال سعادتكما باللقاء و يال شقائي في عزلتي فَـقدًا و خسرانا.

أرقدي بسلام يا صديقتي العزيزة فالتعليمُ بعدكِ خراب و الصداقة بعدك جريحة و الأفراحُ بدونكِ باهتة و دنيانا لن تعود أبدا كما كانت. أرقدي بسلام و دعي السُّـهدَ لعيوننا القريحة و جرحكِ في قلوبنا لا يندمل و ذكراكِ باقية بيننا حيّة نابضة لن يقوَى عليها الزمان.

وداعا يا أجمل الصديقات و يا أحبّ الصديقات و أرقّ الصديقات.

jeudi 16 mai 2013

حتّى يموتو كبار الحومة

من النّاس من يرتطم بالواجهات البلّوريّة للمحلاّت، و منهم من يرتبك أمام الأبواب المدولبة للفنادق، و من إذا صعد سلّما كهربائيّا تعثّر... و كثيرة هي النوادر المرويّة في سبعينات القرن الماضي عن البعض الذي لم يدرك الغرض من حوض الاستحمام فملأه ترابا و زرعه فجلا و قرنبيطا، و البعض الآخر الذي لم يفهم كيف لمطرب ميّت أن يظهر على شاشة التلفزة، و من لم يصدّق نزول الإنسان على سطح القمر...كنّا نواجه تلك السّلوكات بابتسامات السخرية    و يبقى البعض منّا يتندّر بها أكثر ممّا يجب، و في الغالب لا يفارقنا جميعا ذلك الشعور اللذيذ بأنّنا بمنجاة من هكذا تخلّف حضاري بفضل التعليم و المدنيّة و يخدّرنا زهونا بأنفسنا نحن " اليقظون المتعلّمون المتمدّنون " و لا نتفطّن إلى شيء في غيبوبة ذاك الخَدَر الموغل في أنانيّة ذواتنا. ثمّ يمرّ الزمن فيقفز الغربُ كما المارد و يدبّ العربُ دبيب الجُعَل و نزداد تهكّما ممّن أخفق في المواكبة، و دائما أنانيّتنا تعمينا عن ملاحظة ما وراء التخلّف. كنّا نراه مرضا غير مُعدٍ لا خطر فيه سوى أنّه يجعلنا محطّ احتقار العالم، و مرّة أخرى تتدخّل أنانيّتنا فنصنّف الغرب عالما "كافرا" يشحذنا في ذلك حقدٌ على المستعمر لم يندمل بعدُ، لكنّنا كنّا نقف عند هذا الحدّ بل تتعالى أصواتٌ للحداثة داعية إلى الإقبال على العلوم و الخبرات و الثورات التكنولوجيّة و التجارب الإيديولوجيّة. هكذا تشكّل التونسي معتدلا منفتحا متسامحا قابلا للأخذ عن الآخر دون عقد محبّا للحياة غير ميّال للعنف عموما. ثمّ جاءت عشريّة التسعينات فصرنا نسمع بين الحين و الآخر عن فتوى تهبّ مع سَموم صحراء العربان بعد أن كانت الفتاوى تصدر في الضرورات القصوى عن الأزهر و تُرسَل إلى الزيتونة ليصادق عليها مَجمع فقهاء المغرب. و كنّا نقابل تلك الفتاوى الغبيّة بالمزاح، و كلّما تزايدت أمعنّا في السخريّة و لم نفق إلاّ على تنظيم إرهابيّ يدّعي لنفسه الدّفاع عن الدين و الكلام باسم الإله بعد أن نهل من ذلك الفكر الذي كنّا نسخر منه، فكانت التفجيرات و الحرق و القتل. و لكنّ خطرا آخر في العمق ميّز أواخر التسعينات كان ذلك الانحدار المريع في المستوى التعليمي صحبَه عزوف عن المعرفة غير مسبوق. و تخبّطت السياسات التعيسة آنذاك في حلول مرتجَلة للرّتق غير أنّ الوضع لم يكن مجرّد مَزْق و إنّما بِـلَى الثوب كلّه. فبن علي جاء بحقد جاهز على المعرفة و أهلها و لم يدّخر جهدا في تجفيف منابعها و تهميش رموزها و إهانة المبدعين فيها فزيّف التاريخ و احتقر الآداب العالميّة و أهمل العلوم الإنسانيّة و خاف من العلوم الصّحيحة... مع تفاقم البطالة و المحسوبيّة و الفساد الإداري و جبروت الحزب الواحد في خدمة أجهزة الدولة. كلّ هذا و غيره دفع إلى أولى الحلول فكانت الهجرة فرارا بما تبقّى من عقل و حريّة و كرامة، ثمّ مع تضييق الخناق على الشعب بدأت الهجرة غير الشرعيّة و الجميع يعرف أيّ نوع من النشاطات كان يتعاطاها التونسيّون " الحارقون " خاصّة في إيطاليا لكسب قوتهم و ضمان بقائهم. كلّ هذه العوامل و غيرها ممّا لا يتّسع له النصّ الواحد ألقت بضلالها على المجتمع التونسي فجاء الانفجار صحيح، لكنّه كان انفجارا مخيّبا للآمال. و خلافا لكلّ مصدوم من فشل ما اصطُلح عليه بالثورة أو ما ظننّاها ثورة، فإنّ المدرك حقّا للمستوى التعليمي و الثقافي للتونسي عموما لا تصيبه صدمة من الفشل. و قلنا عديد المرّات و قال الكثيرون أنّ الثورة ليست خلع رأس الدولة أو إحداث فراغ دستوري و إنّما هي تقويض لنظام الحكم و أسلوب السياسة و النصوص القانونيّة المتخلّفة و الجائرة و الممارسات الإجراميّة الفرديّة أو المنظّمة في حقّ الشعب. هذا ما أهمله التونسيّون في غمرة فرحهم برحيل بن علي. بل هذا ما عمل عليه بن علي للأمد الطويل: هو تشكيل شعب لا يقرأ، تحرّكه العاطفة و يجد في المخدّر تعويضا عن حرمانه – و أقصد بالمخدّر أيّ نوع من عوامل التغييب، فبن علي كان مثلا يجعل دخول التلاميذ و الطلبة إلى الحفلات الاستعراضيّة التافهة مجّانا، و كم مرّة تتمّ برمجة مقابلات في كرة القدم ليلة الامتحانات، لكنّه لم يكن يقدّم تخفيضات للشباب في معارض الكتب مثلا، و لا يستقدم علماء  أو فلاسفة لإلقاء محاضرات كما يُدعَى مطربون من الدرجة العاشرة و بأموال طائلة – البعض الذين لم ينخرطوا في منظومته ألقاهم في السّجون فمنهم من هادن و نافق و منهم من زادت نقمتهم عليه و على المجتمع الذي
تناساهم و تجاوز قضاياهم.  
من أجل هذا يبدو غريبا اليوم أن نتحدّث عن الشباب المنتمي للتيّار السّلفي أو المشارك في هجمة الغرب على سوريا فنستخدم عبارات مثل " الشباب المغرَّر به "، " غسيل أدمغة ". أيّة أدمغة سيتعب تجّار الدين في غسلها ؟ هذه أدمغة خاوية من كلّ معرفة جاهزة لكلّ دعوة لإظهار عنف الجسد تعويضا عن ضعف العقل. فلا عجب بعد ذلك أن فتيانا يأتون الأمر و نقيضه يسبّون الغرب و يرتدون ملابسه، يحتقرون المرأة و يغتصبونها، يقبلون على الشهادة و الجنّة و يتشبثون بالمال و يقتنون السيّارات و يُنشِئون المشاريع... كم سنة قضّوها في مقاعد الدّراسة ؟ كم كتابا قرؤوا ؟ بل أيّة كتب قرؤوا ؟ ماذا عرفوا عن الأمم الأخرى تاريخًا و حضارة و إبداعا و علوما و فلسفات و تجارب في السياسة ؟ بل أكثر من ذلك، ماذا يعرفون عن الدين الذي نصّبوا أنفسهم نصرة له و لم ينصّبهم أحد ؟ هل قرؤوا القرآن و فهموه ؟ هل اطّلعوا على المذاهب و ما كتب الفقهاء و أهل التفسير و الاجتهاد ؟ هل لديهم علم بتاريخ المسلمين و صراعاتهم و خلافاتهم بين بعضهم و مع الأمم المجاورة ؟ ماذا يعرفون ؟ و إن كانوا يعرفون فكيف يتعاملون مع ما عرفوا ؟ كيف يوظّفونه ؟ ماذا أفادوا منه ؟
... و للحديث بقيّة.

vendredi 12 avril 2013

ميزيــريا 11



عطَّار الحومة بعد ما جرّب يبيع كلّ شيء حتّى ضيّع قلم العطّار و ولّى حمّاص و كسكروتاجي و دخاخني – و كلّه على كلّه لمّا تشوفه قلّه - ركِز ماكينة جديدة مجهّزة بتاليفون مالاوّل ما فهمتش شنيّة سِبِّـتها حتّى لقيته يبيع في قسائم ما يسمّيوه التنمية الرياضيّة – و ما ريت تنمية – لامحالة ربّي يعينه نشا الله يردّها كافيشانطة. المهمّ في العالم الّي يجيو يشريو ورقة برومسبور، كان المهدرش و المقطّع و المسّخ، تراه في الشارع تقول ما يكسابش عشا ليلة، تجي بش تحنّ عليه و تمدّ له الّي كتب إذا بيه يدخل للعطريّة و يجبدها كارطة بعشرين و إلاّ بخمسين و يبدا يعمّر. المصيبة إلّي النّاس الكلّ على بعضه تقمّر، الشباب الدّايخ الضايع البطّال، و العامل اليومي الّي يجيبه النّهار تدّيه الزطلة و القمار، و بو العايلة الّي في جرّته مجريشة صغار... ساعات يدخل واحد منهم لحانوت العطّار و معاه ولده و يبدا هاك الصغير يشريق على باكو بسكويت و إلاّ ياغرطة، تقول يبلّوشي سداه حتّى بكعبة حلوى؟ و الله شيء، يملخ له يده و يقلّه " يزّيني مالشرا ". و بعد ما هاك الفلوس الكلّ تمشي لا نايحة لا دفينة يقعدو عاد تحت الحيط جمعة كاملة و هوما يهتريو بهاذاك ربح ثمانين مليون، و هذاك ضرب وحده ستميات مليون... و آخر الجمعة يرجعو يقمّرو من جديد. يقولو القمار خلاّي الديار و صحيح القمار آفة مهما كان أما فمّة فرق بين النّاس الّي كانت تهبط متهمّمة بش تلعب عالحصان الفلاني و إلاّ عالفرسة الفلانيّة، الحكاية كان فيها فرجة و متعة التشويق و حفلات و أنخاب تترفع، فيانة أخرى مشات مع امّاليها. ما عليناش. إلّي يغيض هو قدّ ما تغرق الميزيريا قدّ ما العباد تزيد تصرف على الوهم، بين الزطلة و القمار يعدّيو حياتهم قاعدين يستنّاو في الحظّ و إلاّ في حلّ غيبي مالسّما ينقلهم من دنيا دنيا و هوما هكّاكة تحت الحيط ما يتهزّوش بمقصّ النّار. عباد كيف هاذم ماعادش نستغرب كي تجدّ عليهم خرافات الجهاد و الجنّة تنادي و كلّ الرّيق البارد الّي عنده ناسه الّي تعرف فين تروّج له. و يكذبو عليهم بآية " ألم يجدك يتيم فآوى و وجدك ضالاّ فهدى و وجدك عائلا فأغنى " و ما قالولهمش إلّي النّبي ما استغنى إلاّما تزوّج بمرا أكبر منه و تاجر بفلوسها و الاّما تحالف مع أغنياء العروش الاخرى.
على ذكر تجّار الدين، نختم بحادثة صارت هاك النّهار في واحد من فروع صندوق التأمين على المرض. إدارة الفرع حبّت  تجتهد لمقاومة الاكتظاظ عملت صفّ للنّساء و لاخر للرجال، ايا قلنا ما عليناشي، كيف قربت للشبّاك لقيت الموظفة تقبل زوز رجال و من بعد مرا في حال إلّي صفّ النساء أطول ببرشة، الحقيقة استغربت. واحد مالوخيّان الواقفين في الصفّ ضحك و قالّي " ماو الرّاجل قدّ زوز نساء" و ياريته ما تكلّم. قتله " عاد كي هو الراجل قدّ زوز نساء مالا نعدّيو راجل و زوز نساء، و إلاّ الشرع عندكم كالجبّيد كلّ مرّة نفصّلوه عالقياس؟ " ضحك و قعد يتمتم في حوايجه و الرجال في الصفّ الكلّ سكتو. ميزيريا.