استحوذ البثُّ المباشر لمداولات المجلس التأسيسي على نصيب الأسد من الزمن الإعلامي في القنوات التلفزيّة التونسيّة خلال ساعات النّهار، بفترة صباحيّة و أخرى بعد الظّهر و أحيانا فترة ثالثة مسائيّة في بداية السهرة. مع ضرورة التنويه بأنّه كان مطلبا شعبيّا عريضا باعتبار أنّ ما يحدث داخل المجلس من نقاشات و عرض لتقارير اللّجان الفرعيّة و تصويت على القرارات، للشعب حقّ الاطّلاع عليه في إبّانه، فقسمٌ كبير منه منح صوته لأعضاء يمثلونه و لولاه لما وصلوا إلى مقاعدهم تلك.
كلّ هذا جيّد و لكن تطفو على السّطح أسئلة عديدة من العبث تجاهلها. فما جدوى بثّ مداولات المجلس في كلتا القناتين الوطنيّتين الأولى و الثانية ؟ و هما توأمان تشتركان في نسبة كبيرة من البرامج عبر البثّ الموحَّد كالأخبار و النشرات الجويّة و مقابلات كرة القدم و بعض المسلسلات، بل أجدُني أتساءل أساسا عن جدوى قناة وطنيّة ثانية بميزانيّتها و أسطول موظّفيها إن لم تكن مختلفة عن القناة الأولى؟ أما كان من الأجدر إعادة النظر جذريّا في أدائها أو التخلّي عنها ربحا للمال العامّ خصوصا و نحن نسمع هذه الفترة عن الوضعيّة الصّعبة للاقتصاد التونسيّ ؟
من ناحية ثانية، ما مدى وجاهة البرامج المقدَّمة خارج فترات بثّ مداولات المجلس التأسيسي و خارج بثّ النشاط الرئاسي المقتصر إلى حدّ الآن على الخطابات الكثيرة و الأحاديث التلفزيّة و استقبال الشخصيّات و الهيئات؟ و هل هذه البرمجة في مستوى الحدث الأهمّ الذي يتابعه التونسيّون بكلّ اهتمام؟ بل هل هي في مستوى توقعات المُشاهد التونسي و تطلعاته بعد الثورة و خصوصا مع كلّ المخاض الذي تعيشه البلادُ في مناطق عدّة منها؟
أقول لكم ماذا يُـقدَّم: مسلسلات قديمة يُعادُ بثها لستُ أفهم لها طائلا أو مبرِّرا و لا أرى لها جمهورا متلهِّفا، برامجُ حواريّة يستميت أصحابُها في استضافة نفس الوجوه تقريبا حتّى صارت بعض الشخصيّات مع احترامي لها، مدعاة للسّخرية حين يتهكّم البعض قائلا: "هل صار فلان مقيما في مبنى التلفزة؟"، و لو فتحتُ باب النقد لاختيار مواضيع الملفـّات و مدى تزامنها و اتّساقها مع أحداث الشارع التونسي لأفردتُ له مقالا قائما بذاته. ثمّ إلى جانب هذين الطبقين، تبثّ القناة الوطنيّة الأولى أو الثانية – لا فرق- أحيانا بعض البرامج الوثائقيّة القديمة أيضا، الضاحكة على ذقن التونسي و السّاخرة من عقله، من قبيل "كيفيّة صيد الخنزير" أو " حياة الأخطبوط " أو " الهندسة المعماريّة في بيوت مدينة تونس" أو "جولة في الجامع الأعظم بالقيروان"... و القائمة تطول. و هذه أيضا لو تحدّثت عن مدى تنافرها مع ما يحدث في الحوض المنجميّ مثلا أو في كليّة الآداب أو في أيّ منطقة مُعدَمَة تعيش دون عتبة الفقر، و ما تقتضيه هذه الملفات السّاخنة من زيارات ميدانيّة و أشرطة وثائقيّة و شهادات حيّة و تحميل أصحاب القرار لمسؤوليّاتهم ... للزمني الأمرُ مقالا آخر أيضا.
لستُ أوجِّه حديثي للقنوات التلفزيّة الخاصّة، إذ ما من عَمَار بيني و بين أيّة مؤسَّسة كانت لا أعلم مصدرَ تمويلها، و التي تبثّ بين البرنامج و الآخر مجموعة من المُعدَمين – لعن الله الفقرَ- يلهجون بحمد صاحبها، مَشاهِدُ عاشت و عشّشت و فرّختْ بيننا منذ أكثر من خمسين سنة. و لكنّ خطابي مُوجَّه للتلفزة الوطنيّة المقتطِعة من ميزانيّة الدولة التي يدفع التونسيّون لها الأداءات و الضرائب و فواتير الكهرباء.
أين إدارة البرامج في مؤسّسة التلفزة التونسيّة ؟ هل دخلت في سباتها الشتويّ بفضل مداولات المجلس التأسيسي و خطابات رئيس الدولة الكثيرة و نشاطه الرئاسي الكثيف؟ كيف ستؤثـِّث ساعات البثّ بعد انتهاء تلك المداولات – إذ لا بدّ لها أن تنتهي على الأقلّ استجابة للقدَر- ؟ أين إدارة الإنتاج؟ و ماذا أعدّت للساعات المتبقية من اليوم؟ أم أنّ حظّ التونسي دائما طبقٌ باردٌ في وسائل إعلامه كما على طاولته؟
إن كانت لا هذه الإدارة و لا تلك بصدد العمل و الاجتهاد و الإنتاج و الحركة رغم الميزانيّة المرصودة لها و رواتب موظفيها و امتيازات مديريها، فهي إذن إجازة طويلة مدفوعة الأجر. لا عجب حينئذ أن يمرّ مستوى نموّنا الاقتصادي بصعوبات حرجة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire