jeudi 16 mai 2013

حتّى يموتو كبار الحومة

من النّاس من يرتطم بالواجهات البلّوريّة للمحلاّت، و منهم من يرتبك أمام الأبواب المدولبة للفنادق، و من إذا صعد سلّما كهربائيّا تعثّر... و كثيرة هي النوادر المرويّة في سبعينات القرن الماضي عن البعض الذي لم يدرك الغرض من حوض الاستحمام فملأه ترابا و زرعه فجلا و قرنبيطا، و البعض الآخر الذي لم يفهم كيف لمطرب ميّت أن يظهر على شاشة التلفزة، و من لم يصدّق نزول الإنسان على سطح القمر...كنّا نواجه تلك السّلوكات بابتسامات السخرية    و يبقى البعض منّا يتندّر بها أكثر ممّا يجب، و في الغالب لا يفارقنا جميعا ذلك الشعور اللذيذ بأنّنا بمنجاة من هكذا تخلّف حضاري بفضل التعليم و المدنيّة و يخدّرنا زهونا بأنفسنا نحن " اليقظون المتعلّمون المتمدّنون " و لا نتفطّن إلى شيء في غيبوبة ذاك الخَدَر الموغل في أنانيّة ذواتنا. ثمّ يمرّ الزمن فيقفز الغربُ كما المارد و يدبّ العربُ دبيب الجُعَل و نزداد تهكّما ممّن أخفق في المواكبة، و دائما أنانيّتنا تعمينا عن ملاحظة ما وراء التخلّف. كنّا نراه مرضا غير مُعدٍ لا خطر فيه سوى أنّه يجعلنا محطّ احتقار العالم، و مرّة أخرى تتدخّل أنانيّتنا فنصنّف الغرب عالما "كافرا" يشحذنا في ذلك حقدٌ على المستعمر لم يندمل بعدُ، لكنّنا كنّا نقف عند هذا الحدّ بل تتعالى أصواتٌ للحداثة داعية إلى الإقبال على العلوم و الخبرات و الثورات التكنولوجيّة و التجارب الإيديولوجيّة. هكذا تشكّل التونسي معتدلا منفتحا متسامحا قابلا للأخذ عن الآخر دون عقد محبّا للحياة غير ميّال للعنف عموما. ثمّ جاءت عشريّة التسعينات فصرنا نسمع بين الحين و الآخر عن فتوى تهبّ مع سَموم صحراء العربان بعد أن كانت الفتاوى تصدر في الضرورات القصوى عن الأزهر و تُرسَل إلى الزيتونة ليصادق عليها مَجمع فقهاء المغرب. و كنّا نقابل تلك الفتاوى الغبيّة بالمزاح، و كلّما تزايدت أمعنّا في السخريّة و لم نفق إلاّ على تنظيم إرهابيّ يدّعي لنفسه الدّفاع عن الدين و الكلام باسم الإله بعد أن نهل من ذلك الفكر الذي كنّا نسخر منه، فكانت التفجيرات و الحرق و القتل. و لكنّ خطرا آخر في العمق ميّز أواخر التسعينات كان ذلك الانحدار المريع في المستوى التعليمي صحبَه عزوف عن المعرفة غير مسبوق. و تخبّطت السياسات التعيسة آنذاك في حلول مرتجَلة للرّتق غير أنّ الوضع لم يكن مجرّد مَزْق و إنّما بِـلَى الثوب كلّه. فبن علي جاء بحقد جاهز على المعرفة و أهلها و لم يدّخر جهدا في تجفيف منابعها و تهميش رموزها و إهانة المبدعين فيها فزيّف التاريخ و احتقر الآداب العالميّة و أهمل العلوم الإنسانيّة و خاف من العلوم الصّحيحة... مع تفاقم البطالة و المحسوبيّة و الفساد الإداري و جبروت الحزب الواحد في خدمة أجهزة الدولة. كلّ هذا و غيره دفع إلى أولى الحلول فكانت الهجرة فرارا بما تبقّى من عقل و حريّة و كرامة، ثمّ مع تضييق الخناق على الشعب بدأت الهجرة غير الشرعيّة و الجميع يعرف أيّ نوع من النشاطات كان يتعاطاها التونسيّون " الحارقون " خاصّة في إيطاليا لكسب قوتهم و ضمان بقائهم. كلّ هذه العوامل و غيرها ممّا لا يتّسع له النصّ الواحد ألقت بضلالها على المجتمع التونسي فجاء الانفجار صحيح، لكنّه كان انفجارا مخيّبا للآمال. و خلافا لكلّ مصدوم من فشل ما اصطُلح عليه بالثورة أو ما ظننّاها ثورة، فإنّ المدرك حقّا للمستوى التعليمي و الثقافي للتونسي عموما لا تصيبه صدمة من الفشل. و قلنا عديد المرّات و قال الكثيرون أنّ الثورة ليست خلع رأس الدولة أو إحداث فراغ دستوري و إنّما هي تقويض لنظام الحكم و أسلوب السياسة و النصوص القانونيّة المتخلّفة و الجائرة و الممارسات الإجراميّة الفرديّة أو المنظّمة في حقّ الشعب. هذا ما أهمله التونسيّون في غمرة فرحهم برحيل بن علي. بل هذا ما عمل عليه بن علي للأمد الطويل: هو تشكيل شعب لا يقرأ، تحرّكه العاطفة و يجد في المخدّر تعويضا عن حرمانه – و أقصد بالمخدّر أيّ نوع من عوامل التغييب، فبن علي كان مثلا يجعل دخول التلاميذ و الطلبة إلى الحفلات الاستعراضيّة التافهة مجّانا، و كم مرّة تتمّ برمجة مقابلات في كرة القدم ليلة الامتحانات، لكنّه لم يكن يقدّم تخفيضات للشباب في معارض الكتب مثلا، و لا يستقدم علماء  أو فلاسفة لإلقاء محاضرات كما يُدعَى مطربون من الدرجة العاشرة و بأموال طائلة – البعض الذين لم ينخرطوا في منظومته ألقاهم في السّجون فمنهم من هادن و نافق و منهم من زادت نقمتهم عليه و على المجتمع الذي
تناساهم و تجاوز قضاياهم.  
من أجل هذا يبدو غريبا اليوم أن نتحدّث عن الشباب المنتمي للتيّار السّلفي أو المشارك في هجمة الغرب على سوريا فنستخدم عبارات مثل " الشباب المغرَّر به "، " غسيل أدمغة ". أيّة أدمغة سيتعب تجّار الدين في غسلها ؟ هذه أدمغة خاوية من كلّ معرفة جاهزة لكلّ دعوة لإظهار عنف الجسد تعويضا عن ضعف العقل. فلا عجب بعد ذلك أن فتيانا يأتون الأمر و نقيضه يسبّون الغرب و يرتدون ملابسه، يحتقرون المرأة و يغتصبونها، يقبلون على الشهادة و الجنّة و يتشبثون بالمال و يقتنون السيّارات و يُنشِئون المشاريع... كم سنة قضّوها في مقاعد الدّراسة ؟ كم كتابا قرؤوا ؟ بل أيّة كتب قرؤوا ؟ ماذا عرفوا عن الأمم الأخرى تاريخًا و حضارة و إبداعا و علوما و فلسفات و تجارب في السياسة ؟ بل أكثر من ذلك، ماذا يعرفون عن الدين الذي نصّبوا أنفسهم نصرة له و لم ينصّبهم أحد ؟ هل قرؤوا القرآن و فهموه ؟ هل اطّلعوا على المذاهب و ما كتب الفقهاء و أهل التفسير و الاجتهاد ؟ هل لديهم علم بتاريخ المسلمين و صراعاتهم و خلافاتهم بين بعضهم و مع الأمم المجاورة ؟ ماذا يعرفون ؟ و إن كانوا يعرفون فكيف يتعاملون مع ما عرفوا ؟ كيف يوظّفونه ؟ ماذا أفادوا منه ؟
... و للحديث بقيّة.

Aucun commentaire: