mercredi 31 mars 2010

سِـبَـــــــاق ج2

غادر الأديب المكتبة بعد أن احتسى كأسه و دسّ السيجارة في جيب سترته ، تأبّط كتابه و تعلّقت الحسناءُ بذراعه . وحدها حكمة الاختيار مكّنته من المغادرة ، لو كان فضّل أحدَ المتبارين و اكتفى به عالَمًا لآنغلقتْ أبوابُ المكتبة إلى الأبد فصارتْ سجنه في حياته و قبره بعد الممات ، لكنّه آثر الحريّة و ها هو يسعى لينعم بها غير أنّ فرحته لم تدم ففي الخارج كانت المفاجأة بانتظاره . انتصبَتْ أمامه و عن يمينه و شماله خيامٌ سحريّة ثلاثٌ و تلامستْ أوتادُها فلا عُبُورَ إلاّ بدخول إحداها



في قبالته خيمة الجاه و الثراء ، من دخلها صار غنيّا ليس لثروته حدّ ، و عن يمينه خيمة النّفوذ و السّلطان المطلق و عن شماله خيمة المجد و الشّهرة من قصدها خلّده التاريخ بأحرف من نور . لابدّ أن يدخل إحداها إن كان يريد النّفاذ منها إلى طريق الحريّة ، صار الخيار محتوما لكنّه صعب . أخرج السّيجارة من جيبه ، أشعلها و سحب منها نَفَسيْن متتالييْن و أغرق في التفكير



أحسّ بالكتاب يتململ تحت إبطه فبادره : " هات ما عندك ، لابدّ أنّك أعمق تدبيرا فبماذا تشير ؟ " قال الكتاب : " أرى أن تتّجه إلى المجد و الشّهرة فليس من العدل أن يعيش مثلك و يموت مغمورا . ينبغي أن تطبّق شهرتك الآفاق و ينتشر إبداعك فيستنير به البشر و لهم في ذلك رقيّ عن عتمة الجهل و فضاضة الذّوق ، غدا تُدَرَّسُ حياتُك و آثارُك في الكليّات و الجامعات و تُنظَّم بآسمك النّدوات و المهرجانات فتصير مفكّر العصر و منقذ البشريّة في زمن عزّ فيه الفكر . تقدّم يا صديقي ، إفعلها و اضمن لنفسك الخلود . " جذبت الحسناء ذراعها في عصبيّة فانتبه إليها الأديب و قال : " من الواضح أنّ رأي الكتاب لم يرقك ، لا تغضبي يا شقيقة الرّوح و أشيري عليّ فلا مُلهِم لي سواك . " نزلت كلماته بلسما على انزعاجها فاستعاد وجهها الوضّاء إشراقته و لمعت عيناها ببريق وعد و همست في أذنه : " و ما حاجتك إلى الشهرة ؟ أوَ مثلك يبحث عن الشهرة ؟ إنّها مطلب كلّ غِرٍّ أرْعَنَ خاوٍ و إن كان العالَم لا يفقه أفكارك فذلك شأنه لا شأنك ، ما دمتَ تمتلك سحر القلم و عمق المعرفة فما ينقصك سوى أن تنعم بحياتك ، و ما النّعيم إن لم يكن ثروة تحقّق بها ما تريد ؟ ألستَ من دعاة عدم احتراف الكتابة موردا للرّزق ؟ ها هو المال مُتاحٌ لا يحدّه حدّ و لا عدّ ، خذه و دعنا نرى للحياة وجها جديدا يا حبيبي . " همس الكتاب في صوت خفيض " لو لم تقولي ما قلتِ لشككتُ أنّكِ من جنس النّساء . " " بماذا تتمتم يا كتلة الطّلسم ؟ " قالت الحسناء . أجاب الكتاب : " لا شيء ، فجأة تذكّرتُ قارون ، صديق قديم لي لا تعرفينه ... لا تبالي . " ابتسم المفكّر و قال : " عذرا يا صديقَيّ ، لستُ من هواة الشهرة و ما أنا بعاشق للثروة و إن كان ثمن الحريّة دخول إحدى الخيام فسأختار ذات المُلك و السّلطان عَلِّي أحقّق شيئا من العدل و أحمل الرعيّة على تقديس المعرفة ... " انتفضتْ الحسناء في ابتهاج لم تَقْوَ على مداراته و ردّدت بينها و بين نفسها " رائع ، مذهل ، أخيرا سأنعم بالنّفوذ ، و قد أقنعه بالزّواج فأصير ملِكة العباد و المتصرِّفة في خزائن البلاد . " صرخ الكتاب : " لا .. لا تفعل يا صديقي ، إيّاك و الوقوع في إغراء المُلك فللسّلطان بوارق خُلّبٌ تغيّر النّفوس ، سيجعل منك الكرسيُّ شخصا آخرَ لن تحتمل رؤيته في المرآة . إرجِعْ .. تمهّلْ ... " لوّح له المفكّر بيده و هو يتّجه رفقة حسنائه نحو الخيمة " لا تخشَ شيئا ، لن أطيل المقام ، إنْ هي إلاّ معبرٌ نحو الحريّة" و غاب




يتبع

2 commentaires:

illusions a dit…

" لا تخشَ شيئا ، لن أطيل المقام ، إنْ هي إلاّ معبرٌ نحو الحريّة"
لو قالها بلغة غير لغة الضاد لصدقته و لو لوهلة، لكن هيهات، فقواميسنا مختلفة.
الاختيار لم يكن بصعوبة كبرى فهذه الخيمة توفر الجاه وكذلك الثروة و تشتري شهادة و صفحات من التاريخ

WALLADA a dit…

@ illusions

صحيح أنّ خيمة السّلطان توفّر كلّ شيء حتّى أنّ الاختيار بدا غير صعب و لكنّ الحقيقة غير ذلك ، فلكلّ وضع مفاجآته و صديقنا ارتمى في حضن المجهول جازما أنّه لن يطيل

سنرى