jeudi 4 mars 2010

الرّسالـــــة

في ليلة موحشة حين تستقبل الطبيعة خريفها المغبرّ و يحتجب القمر خلف الغيوم فيثقل الكون حتى لا يكاد يُبين و يبحث الوجود عن بقايا يقظ بين الأحياء ليواري سوآت بني جنسه ، عند ملتقى مَرَج البحريْن حيث ينصهر الماء في الماء ليزداد عُتِيًّا ، تكتّلت على حافة البرّ صخور صلدة في عناق و تكاتف لم يَفُـتَّ فيهما لطمُ الموج . نقطة غريبة تنهض في تمرّد عن عقال الزمان زادتها العتمة إيذانا بحادث جلل يضطرب و يتأهّب و يتوثّب . في غفلة من الكائنات ، اجتمعت ثلاثة أشباح في الظلام لا تظهر منها إلاّ هاماتها، كُتَلٌ داكنة يَفرُّ منها اللّيل و لا يُميّز النّاظر إذا كانت قد تلفّعت بعباءات أو تكوّمت تحت ما يشبه الأجنحة . مخلوقات لا جنس لها و لا رَسم ، تكوين غريب بين البشر و الملائكة و الوحوش. وحده البحر المُتمَدِّدُ أسفل مجلسها كان يعلم سرّ هويّتها ، كلّ ما كان باديًا على الثلاثة انشغالٌ و إطراقٌ و هَمٌّ ثقيل . فجأة نطق أحد الأشباح : " من أين ينحدر النَصّ ؟ و كيف يشرعُ في النّهوض ؟ فأجاب
الشبح الثاني : " إنّه مجرّد كلام ، و لكنّه نوع من الكلام متفرّد ، في رحابه تقضي الكلمة على اغترابها عن ذاتها فتكفّ عن كونها أداة تستمدّ ماهيّتها من مدى تحقيقها لوظيفتيْ الإبانة و الإفهام و تستردّ ماهيّتها من جديد لتتحوّل إلى كيان يرشح بذات قائلها . ذلك أنّ الكتابة ضربٌ من النّرجسيّة أو لا تكون . هي منافسة الخالق في الخلق متسربلة بالغموض فتبدو كما لو أنّها تقف على تُـخوم ما لا يُقال و ما لاذ بالصّمت و تُومِئُ مجرّد إيماء و تجاهِدُ لتكون . لذلك تتبَدَّى أنّها حركة اجتياح لما يظلّ محتمِيا بالممنوع و المُحَرَّم . إنّ الكاتب حتّى في لحظات رُعبه و حزنه و غضبه و خيبة أمله لا ينشغل بذاته عن العالم بل يحضر في تفاصيله حين يكون قادرا على انتشاله من عتمة الغياب و العروج به إلى التجَلّي فيُفلِت من عقال التَّـشَيُّؤ و يشهد التحوّل ، تلك هي لحظة المكاشفة القائمة على التشكّل تنتقل بالنصّ من السّطح إلى العمق . أما رأيتَ أنّ ضربا كهذا من الكتابة بقيَ في نظر القراءة المُتعجّلة يُعتَبَر تَعْمِيَة ؟ أوَ تدري لماذا ينغلق النصّ في وجه تلك القراءة المتعجِّلة و لا يمنحُها نفسه ؟ لأنّها تطلبُ موته . كلّ مقارَبَة متشبّثة بالسّطح تقف أمام عمق النصّ قاصرة لا تجيب لأنّ الإجابة تتطلّب إعمال الفكر و استقراء الدّلالة و التورّط في أدغال المَقاصد و تلك مُجازَفة لا تتأتّى للجميع . "
تململ الشبح الثالث و أفرغ قدَحًا مُتوهّجا في جوفه فأومض في وجهه المُظلم شيء كالبريق ثمّ قال : " ما أروعَهم حين يكتبون ، يختار الواحد منهم الكتابة مُنقذا و ما إن يَشرَعَ فيها حتّى يدخل في سَفَر العذابات فتتوالد في نصوصه ومضات مُخبِرَة عن ذلك الضَّنَى العاتي
و تبدو كتابته كما لو أنّها نوع من العَصْف تأخذه من ذاته كالزّلزلة . أتذكران مُقاربَتهم للنّصوص المُقدَّسَة ؟ حاصَروا الوَمَضات و استقرؤوها فتحوّلتْ بعد طول التمَلِّي إلى مَسَاربَ تقود إلى ما تكَتَّمَ مُقفَلا على نفسه و ما تحَجَّبَ مُتمَنِّعًا لا يَمنحُ ذاته . وحدَهم مجانينُهم استمرُّوا في طقس الكتابة و اسْتَمْرَؤوا عذابَها المُتجدّد فبَلغوا لذّة المُنتَهَى و انكشف لهم ما وراء الظاهر فشرعوا يلتقطون نبْضَ الكون كما سمّاه شاعِرُهم / روح الكائنات المُستتر / و لكنّ نبوءات الأوّلين حدّثتْ عن زمن رديء تغدو فيه الكتابة مُريحَة فتصيرُ لغْوًا و إنّي أرى أنّه أضلّهم . " قال .
في تلك الساعة الطلسم انكشفتْ عن السّماء حُجبُها و صدر عنها صوتٌ رهيب ردّدتْ صداه الصّخور " في البَدْء لمْ نُخلَقْ ، في البَدْءِ كان القول فكانت الأسماء . ذلك الفانِي سَمَّى الموجودات فباتتْ لغته تزخر بالحياة و تزدحم فيها الاحتمالات و الإمكانات ، ذلك أنّه حين سَمَّى كشَف و حين كَشَفَ أسَّس فكان الوجود . إنّ الكتابة أعظم و أخطر فعل مارَسَه الإنسانُ على الإطلاق . " هتفت الأشباحُ الثلاثة في صوت واحد : " فهَلْ تعطّل كلّ ذلك و أدركَه البِلَى ؟ هل فقدَتْ الكلماتُ حرارَتَها الأولى بالتّداوُل و التّكرار و لمْ يَبْقَ منها بين يدَيْ الإنسان سِوَى مُجرّد ثرثرة تقومُ على أنقاضها مملكَةُ الأشياء ؟ لابدّ أن تتمرَّدَ اللّغة على البُعد الواحد ، إنْ طَفَحَتْ بالدّلالات فستُعَرِّي الكوامن و تكشفُ عن الأبعاد فيَكُفُّ الواقعُ تحت مفعولها عن كونه فَجًّا مَوَاتًا . النصُّ وحدَه يمكن أن يَنتشِلَ اللّغة و الواقعَ و مِن ورائهما الإنسان . فمتى استلبَتْ اللّغة و تقادَمَتْ و اغترَبَتْ أدركها البِلَى و عوضَ أن تمنحَ الإنسانَ ماهيّة الكائنات تُسَلّمُهُ مظهرَها و قشرَتَها فيُصبح مُهَدَّدا في وجوده فإنْ توقّفَ عن الكتابة أقرّ بسُلطان العَدَم ... صار لِزامًا علينا أن نضطلعَ بأشدّ أدوارنا خطورة اللّيلة سنُجدِّدُ اللّغة فيتَجدَّدُ الوجود ، علينا أن نُجبِرَها على استرداد ذاكرتها في هذا الزّمن بلا ذاكرة ، فأينَ لنا بسَهِـدٍ بين النّيَام يحمل عنّا هذا القَدَر فيَنبَعِث كائنًا كاتِبًا "
كان الليل قد انقضى أكثره و حانتْ ساعة احتضاره فهلّت أولى تباشير الفجر تزحف في خطوات حاسِمة غاشِيَة البحر و الصّخور و المباني المتناثرة . مازال البشر نيامًا كالأموات و المكانُ قَفْـرٌ إلاّ من أديب بَدَا مُترنِّحًا يَجوسُ خلال الأزقّة يَنشُدُ طريقا إلى البحر عَلّه يَعثرُ عنده على حُطام إلهامه . تلاحَظتْ الأشباحُ فيما بينها و تهامَسَتْ ثمّ هَبَّتْ واقفة في حركة واحدة فتسامَقَتْ قاماتُها في عُـلُوٍّ باذِخٍ لا عَهدَ لأهل الأرض بمثله فمَا أغْنَى نورُ الفجر الواشي بمَلامِحها شيئا و لا أبَان . مازال لمْ يرَها الرّجُلُ بَعْدُ حين ألَـمَّ به غَـشْيٌ و هو ثابتُ القدمين لا يَجثمُ كأنّ الزّمنَ توقّف أو كأنّه صار ذاتا خارج الزّمن و تركه يفعل فعله في النّيام أشباه الأحياء فيَزيدَهم هَرَمًا و بِلًـى ، بل لكأنّ قوّة قاهرة رفعته و طارت به على ظهور العاديات ضبْحًا المُغيرات صُبْحا و يَمَّمَتْ سِدْرَة المُنتَهَى حيث تلقّفَته أيادٍ من نور و همَسَتْ الثغور في أذنه " اكْـتُبْ " فأخذه ذهولٌ أخرجه من حدود الزمان و المكان و الجسد و كلّ مادّة .
سَكَبَتْ الأشباحُ على رأسه سائلا غريبًا و تمتمتْ بكلمات مُبهمَة و إذا بأحدها يهتف : " تمَهَّلا ، ماذا فعلنا بهذا الشقيّ ؟ أنُسَلّـمُه جنون الكتابة دون أن نُضْرِمَ له نارَ الشّوْقِ يَصْلاها قلبُه فيَتوَهَّـجَ بها قلمُه ؟ ألا عِشقَ يُعذّبُه ؟ ألا حَيْرَة تُؤرِّقه ؟ ألا شَكَّ يُطيحُ بما سَكَنَ فيه و يُشعِلُ ما خَمَدَتْ جَذْوَته ؟ " قال . و نَفَثَ في أذن الرّجل كلاما لا يَعْلمُه إلاّ هو .
حين استفاق الأديبُ من ذهوله شهق و هرع إلى بيته لا يَطلبُ دِثارًا بل يبتغي القرطاسَ
و القلم . في تلك اللحظة دمدمَ صوتٌ مُدمِّرٌ كهزيم الرّعد كادتْ تخرُّ من وقعه صخورُ الشاطئ " وَيْحَكُمْ ، أتتحَدَّوْنَ إرادَة السَّماء و تُعيدُونَ لِـدُودِ الأرض و حُفاتِها سُلطانَ القَوْل تُـسْبِغونَه على مَنْ لَـفَظَه طَوْعًا و كَرْهًا ؟ غدًا يُغويه بريق الخلق فيُدَانِي أبَانَا في ملكوته
و تتحقّق اللّعنة . "
كان قد انفَلَـتَ شيطانُ الكَـلِم و قُضِيَ الأمر و لا مَرَدَّ لمِدَادِ القلم .اعتلى قرصُ الشمس عرشه كما يفعل كلّ يوم و نفذَتْ خيوطُه إلى صفحة البحر فالتمعَ بها و تلألأ ، تراقصَتْ قطراتُ الطَلّ على وجنات الزّهور فأشرقتْ ألَـقًا و تمَطَّتْ الأشجارُ فأيقظتْ الطّيورَ في أعشاشها فتجَاوَبَتْ الأرْجَاءُ بأنشودة الحياة و استفاق البشرُ ليشهدوا ميلاد يوم جديد . كلّ هذا الجمال النّابض كان فوق كلّ غضب و فوق كلّ عقاب . لم يبقَ سوى التّسليمُ بدورة جديدة ، بفرصة ثانية ، رِسَالتُها .. الكتابَة .

Aucun commentaire: