وقفتُ في شرفة بيتي ساعة الغروب أتأمّل القرية و النّهر يشطرها قسمين و يمضي هادرا إلى القرى المجاورة. لم يكن لديَّ أولاد، فاصطحبتُ زوجتي و استأجرتُ مركبا سلك بنا النهرَ و جئتُ إلى هنا طلبًا للعلم مع زمرة من المُريدين الذين شدّوا الرّحال من أقطارهم البعيدة لنجلس إلى معلـِّم ذاعتْ شهرته. و لعلّي خشيتُ فيضانا يُهلكني في سبيل العلم و المُعلّم فلجأتُ إلى شراء هذه الأرض المرتفعة حيث أنشأتُ بيتا و دكّانا عملتُ فيه إسكافيّا بعد أن كنتُ مُعلـِّم صبيان، ومَن سيعهد هنا بصبيِّه إلى غريب قدِمَ استزادة للعلم؟ فلذتُ بحرفة حذقتـُها في صغري. أمّا زوجتي فكانت أوفر منّي حظا ، لقد تزوّدتْ للرحلة بعطور أبيها و عرضتها على نساء القرية فلاقتْ بينهنّ رواجا فقايضتهنّ بها قمحا و زيتا و توابل و بقولا ، و باتت تبيعهنّ إيّاها حين اطمأنّتْ على مؤونة الشتاء. ثمّ نفد ما جلبته فصارتْ تنتقي من الحشائش و الزهور اليانعة على ضفتيْ النهر ما تدقـّه و تخلط بعضه ببعض للحصول على روائح جديدة ، تصيب مرّة و تخفق مرّات و تـُطلق على عطورها أسماء تحرّك في القرويّات ما أخمده الدّهر فيُقبلن في شغف على بضاعتها حتّى غدتْ للقرية عطّارتها. كانتْ تذكّرني و هي عاكفة على أوانيها و عقاقيرها بقهرمانات تدمر القديمة، و يروقني إصرارُها. ثمّ بدأتُ أضيق بقنّينات العطور يزدحم بها البيتُ الذي صار مقصدا للنّساء كامل ساعات النّهار، و لم ينجُ محيطه من شبّان يأتون للتسكّع و مراودة الفتيات ، بل كان بعضهم يقف بباب البيت ليقتني عطرا يهديه لصبيّة عَلِـقـَها قلبُه .. لزمتُ دكاني و صرتُ أقضي فيه الليلة ثمّ الليالي و لا أدخل البيت إلاّ لماما، غير أنّي في الحقيقة كنتُ أغبطها على نماء تجارتها و كساد حرفتي فالقرويّون هنا نادرا ما يرتقون نعلا أو خفـّا، أمّا نساؤهم فيرتدين أحذية بسيطة ينتصب بها يومَ السوق تاجرٌ متجوّل، كانت حِليَتهنّ في المواسم و الأعياد و يكتفين بالخفاف سائر الأيّام .. رضيتُ بكسبي القليل و انصرفتُ إلى الدّرس غير مبال بتعجّب زوجتي يبلغ أحيانا حدّ الامتعاض غير أنّها سرعان ما تجد سلوانا في تجارتها فتكفّ.
لمحتُ مُعلـِّمي قادما فأدركتُ أنّه ما قصدني تلك الساعة من المساء إلاّ ليضنيني بسؤال ثقيل و ذاك كان دأبه إذا رام بحث موضوع بعد الدّرس، يزور أحدَ طلاّبه ليلا فيُلقي عليه مسألة و ينصرف ، ثمّ يُثيرها متى لقيناه في حلقة الدرس فنتحاور دون أن يتدخّل ، حتّى إذا سكتنا و التفتنا إليه ، قال قوله. نزلتُ من الشرفة ركضا للقاء شيخي ، قبّلتُ كتفه و مهّدتُ له مجلسا مريحا في غرفة الضيوف فأباه و آثر مقعدا من الخيزران أمام دكّاني ، رفع بصره إلى السماء بدأت تظلم و صمت برهة، و ما كان أحدٌ يجرؤ على إخراجه من صمته ، ثمّ التفت إليّ و قال : " أيّ الأمريْن أشدّ على النفس، الكذب أم الظلم ؟ " لم يكن سؤالا بل مسألة و الجواب العاجل حمق، فالتزمتُ الصمت. تبسّط إثر ذلك في محادثتي يستفسر عن أحوالي و مهنتي و أخبار القرويين معي .. و امتدّ بنا السّمر إمتاعا حتّى نهض و انصرف مطمئنّا سعيدا بحيرتي. انقضى من الليل أكثرُه، بلغني من داخل البيت صوتُ زوجتي في غنج بغيض " أ لن تأوي إلى فراشك؟ أما سئم ذاك الشيخُ الثرثرة بعد ؟ " فلم أردّ و انزويتُ في ركن من البيت أفكّر و أرقب اندلاع الفجر.
بحثتُ عن معلّمي نهار الغد في القرية فلم يظهر، زرتـُه مساءً فلم أجده، رجعتُ إلى بيتي متوتـّرا مهموما فاستقبلني إناءُ ماء تطفو على صفحته بعض بتلات بنفسج و حذوه صابون و ملابس نظيفة، فهمتُ رسالة زوجتي فتركتُ لها البيتَ و أمضيتُ الليل تحت شجرة الكستناء. عدتُ إلى معلّمي عندما تحرّر الضياء و قرّرتُ ألاّ أبرح حتّى ألقاه، فإذا به يُرسل إليَّ خادمه " يقول لك سيّدي ليس كلّ برّاق معدنا نفيسا، ترَوَّ و انتظر موعد الدّرس. آسف سيّدي، عليَّ إغلاقُ الباب كما أمِرتُ. "
يغيضني استخفافُ معلّمي بي ، شدّتـُه عليَّ أحيانا أهوَنُ من رفقه، فرفقه مسموم، تشوبه الاستهانة بعقل سريع العطب. كان يُحرجني بالعسير دون سائر الطلاّب فإذا عجزتُ، ضحك بخيبة أحسُّها و أتعذب، و إذا استثارني أمرٌ و لحظ حماسي و إقبالي، أعرَضَ عنّي فأشتعل حنقا. كنتُ إذا غضبتُ غضبَ أكثر منّي فأعتذر إليه صاغرا ، و متى تمارضتُ استدرارا لعطفه تجاهلَني ، و قد أقاطِعُه يوما أو يومين فيُقاطِعُني حتّى أؤوب إلى حلقة الدّرس ذليلا و أجلس بين الطلاب صامتا فلا يسألني عن سبب غيابي بل لا يحفل بعودتي .. كان يُراودني أحيانا شكّ أنّ معلّمي شرّير يتلاعب بالعقول، حتّى إذا بلغتْ ثورتي ذروتها وصلني منه ثناء يخمد حنقي و يبدّد شكّي، فأحبُّه و أطيعُه.
ليته يغيّر معاملته كي لا أراني ثورا مشدودا إلى ساقية ، مازال يستأثر بطرح المسائل، هو من يُوجِّه و من يُصوِّب فمتى أستقلّ بفكري؟ متى أتمكّن من محاورته و الدّفاع عن رأيي دون الوقوع في خطإ يجعلني أخجل بجهلي؟ متى أصيرُ قادرا على إقناعه فيدعوني إلى التفكير معه؟
أرّقتني هواجسي فبتُّ الليل أذرع البيت، سمعتُ زوجتي تقول:" ما كان لأهل العلم أن يتزوّجوا فلا عضو في أجسادهم يعمل سوى العقل." و تضيف في تهكّم مقيت " عِلمٌ في منتصف العمر." أثارني تعقيبُها غير أنّي كنتُ منشغلا بمسألة المعلّم و لم أطمئنّ إلى ما توصّلتُ إليه فرأيتُ أن أختبر الكذب و الظلم عَلـِّي أصيب بالتجربة يقينا. عمَدتُ إلى قوارير زوجتي فحطّمتُها جميعا و أرَقتُ عطورها على أرضيّة البيت و أتلفتُ كلّ بضاعتها، ثمّ اقتحمتُ عليها غرفة النّوم، غازلتُها بكلام لم تسمعه منذ اقترنّا ، داعبتُها ، مدحتُها بما ليس فيها ، و بسرعة لم أتوقّعها لانتْ بين ذراعيَّ و تراختْ قسماتُها و تهدّج صوتها فصارتْ كقطعة عجين طال اختمارُه حتّى فاض عن الإناء. أخذتُها مغمَض العينين ثمّ نهضتُ عنها و غادرتُ البيت.
فرغ معلّمي من إلقاء درسه و أومَأ إليّ بطرح المسألة ففعلتُ ، و انطلق حوارٌ بين الطلاب لم أشاركهم فيه ، ثمّ سكتوا و التفتوا إلى المعلّم فلم آتِ صنيعهم و فهم المعلّم أنّ لي رأيا فلم ينطق. قلتُ : " إنّ في الظلم اعتداء، لكنّ المُعتدِي لا يُخفي عن الضحيّة قوّته بل يتباهى في تحدّ إلى نزال يكون فيه النّصرُ للأقوَى أو الأدهَى أو الاثنين معًا، أمّا الكذب فيحتمل الزّيف و الظلم مجتمعين، فالكاذب يبخس قدرَ غيره في التدبّر و يبخس قدرة ذاته على الإقناع إن هو قال الحقيقة و في الحالتين يظلم ، و الرّذيلة التي تنوء بشرَّيْن أثقل على النفس من تلك التي تحمل شرًّا واحدا."
ساد صمتٌ ... " علامَ اعتمدتَ في جوابك هذا؟ " قال معلّمي و قد علتْ وجهَه ابتسامة ما عهدتُها. قلتُ " على تجربة خضتُها و سأخبرك بوقائعها متى ضمّتنا خلوة. "
غادر الطلبة و بقيتُ . دنا منّي معلّمي حتى تلامستْ ركبتانا و ما ألِفتُه يترك مجلسَه في الصّدارة و إنْ انقضَى الدّرس، رويتُ له ما حدث مع زوجتي و كيف توصّلتُ إلى أنّ الكذب أنكَى من الظلم و أشدّ قدرة على تجريد الإنسان من كينونته.
قال : " مادمتَ قد بلغتَ حدّ دعم المعرفة بالاختبار و لم تعد قانعا بالتلقِّي مطمئنّا إلى التخمين ، فهذا فطامُك ، اليوم فراق بيني و بينك. "
6 commentaires:
أمّا عن صغرى العبرتين فإنّ حبل الكذب لا يطول إلاّ على قدر غفلة المكذوب ولا يمكن الكذب إلاّ في حمى الحمق، فلا ضير يخشى منه على الفطن وإن أخذته غفلة، أمّا الظّلم فهو امتحان للشّجاعة، وهذه أعزّ من الفطنة ومن النّباهة، أو هكذا يخيّل لي، واجتماع الأولى والآخرة فيما أحسب أندر، فكان الكذب مأمونة عواقبه إلاّ على الحمقى، أمّا الظّلم فلا تؤمن عاقبته إلاّ بالشّجاعة، ثمّ إنّ غنم الكاذب من المكذوب يسير الإدراك سريع وفير إلاّ أنّه زائل لا محالة لا يدوم إلاّ حين غفلة المكذوب، أمّا غنم الصّادق من المصدوق فباق لا ينقطع وإن عزّ وقلّ. واللّه أعلم.
تونسي
رأي أحترمه و وجهة نظر معقولة و لكن تذكّر أنّي لم أكتب مقالا صحفيّا أو تحليلا نفسيّا . هذا إنتاج قصصيّ و تلك كانت رؤيتي الذاتيّة .
مرحبا بك دوما زائرا و ناقدا و صديقا.
لم يغب عنّي جنس النّصّ (ولذلك تحدّثت عن "صغرى العبرتين")، ولم أخلني محاورا كاتبة مقال أجادلها الرّأي، إن هي إلاّ خاطرة عابرة من وحي الأمثولة سقتها علامة اهتمام وتقدير، وهي بدورها لا تعدو التّعبير عن رأي أراه ورؤية ذاتيّة، ومن ثمّ نفي (منتهى) العلم عن الذّات المتكلّمة عبارة ختام. ولا يخفى أنّ ما يهمّ في مثل هذا المقام وهذا المستوى من التّواصل أو"التّبالغ" إن صحّ القياس (شرط أن لا يحمل على التّظاهر بالبلاغة) ليس ما يقال (أو ما يكتب) وإن كان ما يقال ليس غفلا من المعنى بل هو فعل القول (أو الكتابة) ذاته. سلام.
تونسي
قلتَ فأصبت و شرحتَ فأجدت
تحيّاتي
الكذب اشدّ انواع الظلم.. هذا رايي باختصار في الحكايه .. بخلاف هذا .. ما كتبته جميل و طريف
براستوس
و ذاك رأيي أيضا ، أعتقد أنّ الكذب - إلى جانب العيب فيه - هو أيضا شكل سافر من أشكال الظلم لأنّ فيه تعدّيا على حسن النيّة في المكذوب عليه
شكرا صديقي على التفاعل و لا تطل الغياب على مدوّنتي
Enregistrer un commentaire