مقالي الأسبوعي الصادر بجريدة " المغرب " اليوم الأحد 13 نوفمبر 2011
" مارلا أولمستيد " صبيّة أمريكيّة من مواليد 2001 تسكن نيويورك، من أسرة عاديّة جدّا ككلّ الأسر متوسّطة الدّخل، يعمل الأب محاسبا أمّا الأمّ فممرّضة لدى طبيب أسنان، يدفعون الضرائب و يتنقلون إلى الكنيسة كلّ يوم أحد. حين تتأخّر الأمّ في العمل أو تعرّج على الأسواق لاقتناء حاجيات العائلة، كان الأب يُضطَر للبقاء بالبيت و رعاية ابنته إذ لم يكن في مدّخراتهما متّسَعٌ لاستخدام جليسة أطفال، فكان يشغل وقته ذاك بشيء من الرّسم من قبيل الترويح عن النفس لا أكثر، و كانت الطفلة ذاتُ السنوات الأربع تطوف به و تزعجه كما يفعل كلّ الصّغار للفت الانتباه. لكنّه بدل انتهارها، أعطاها ورقة و فرشاة و بضعة ألوان. ظلّت ترسم و ترسم بالليل و النهار و في كلّ ركن من البيت، و لم يُعر الوالدان اهتماما إلاّ عندما امتلأت أرجاء المنزل بالرّسوم التجريديّة الصّاخبة. كانت تطلق الأسماء على لوحاتها فهذه " سلّم إلى السماء" و تلك " عندما كنت في بطن أمّي" و أخرى " نافذة من الأرض" ...
و كان للأسرة صديق يملك مطعما، شاهد الرّسوم في إحدى زياراته فاقترح على الأبوين عرضها في محلّه، استشارا ابنتهما فوافقت ببراءة على البعض لكنّها اعترضت على البعض الآخر لأنّها غير مكتملة فنزلا عند رغبتها. لاقت رسوم "مارلا" إعجابا و إقبالا من روّاد المطعم و أعرب كثيرون منهم عن رغبتهم في اقتناء بعضها، حينها اتّصل الصديق بالأبوين ليسأل إن كانا قد فكّرا في تسعير اللوحات، فالإقبال على شرائها يزداد يوما بعد يوم. في الحقيقة لم يكونا قد تنبّآ بأنّ رسوم طفلتهما قد تلاقي مثل ذاك القبول، و لكنّ العكس هو ما حدث. صادف أنّ أحد زبائن المطعم كان صحفيّا في جريدة يوميّة كتب مقالا بعنوان " طفلة في الرّابعة من عمرها تبدع في الرّسم التجريدي " و سرى الخبرُ بسرعة البرق. توافد على الأسرة الإعلاميّون و منتجو البرامج التلفزيّة و النقّادُ و الفنّانون. و أخيرا أقيم معرض "مارلا " الأوّل، و لاقى إقبالا كبيرا ، و قد باعت خلاله 43 لوحة. و أصبحت تتصدّر المجلاّت الفنيّة و يتزاحم علي استدعائها مقدّمو البرامج، و صار بيتها يعجّ بالصحفيين و المصوّرين و المنتجين السينمائيين. يكفي أن تنقر اسمها على موقع القوقل أو الويكيبيديا لترى رسومها.
للحقيقة لم أشاهد طيلة الشريط الوثائقي عن هذه الرسّامة الصغيرة أنّ أبويها اتّخذا قرارا يخصّ فنّها دون الرّجوع إليها و إن كانت آراؤها ساذجة، و لم يجيبا على أسئلة الإعلاميين بدلا عنها، كانت تجرّ الفريق الصحفيّ بأكمله خلفها حسب ما تقتضي براءتها الطفوليّة و قد لا تجيب إلاّ بإيماءة فيقنعون بذلك و أحيانا تسهب في الكلام عن رسمها فيصمت الجميعُ حتّى تفرغ من حديثها. كما لم أشاهد معلّمتها تدّعي أنّها تنبّأت بنبوغ الطفلة و كانت تشجّعها على ممارسة الرّسم ، و لم أشاهد عمدة نيويورك يلتصق بالصبيّة لالتقاط صورة خدمة لحملته الانتخابيّة، و لم أشاهد قسّ كنيسة الحيّ يخصّص صلاة الأحد ليُؤلّبَ المؤمنين على هذين الأبوين الذين " يصرفان ابنتهما عن طريق الربّ " بعرض صورها في المجلاّت الفنيّة "الخليعة" و على شاشات التلفزة و أنّ لوحة مثل "سلّم إلى السّماء" تـُعَدُّ كفرا و اعتداءً على مشاعر الأتقياء من المسيحيين ، و لم أشاهد رسّامين كبارا يقلّلون من قيمة رسوماتها و يحشدون ضدّها حملة تشهير خشية المنافسة. لم أر من هذا شيئا. بل رأيت مجتمعا يحتفي بطاقة إبداعيّة تفتّقت في عفويّة لتخطو خطواتها الأولى و يمدّ إليها يده دون وصاية أو صدّ.
لن أسقط في المقارنة فليس منها طائلٌ. وحدها هذه القصّة الحقيقيّة تفي بالغرض.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire