dimanche 20 novembre 2011

بابلو نيرودا حين تكون الثقافة معبَرا للسياسة

مقالي الأسبوعي بجريدة "المغرب" الأحد 20 نوفمبر2011



1904 - 1973
       
            ممّا قرأت بعد الثورة – و الحصيلة هزيلة في الحقيقة – رواية أهدتنيها صديقة لي، من تأليف انطونيو سكارميتا و تعريب صالح علماني، عنوانها " ساعي بريد نيرودا ( صبر متأجّج )" و هي إصدار جديد بتاريخ السنة الجارية. كتب تقديمَها ظافر ناجي: ساعي بريد نيرودا، حين يصبح الشعر ماهيّة للرواية. هي حقّا رواية بطعم الفاكهة، تبدؤها فإذا أنت متورّط فيها حدَّ المتعة، تنال من كلّ حواسّك      و تسحبك إلى عالمها فلا تملك منها فكاكا قبل أن تقرأ الجملة الأخيرة. قد يعتقد البعض أنّ تشابك الأحداث و تشويق الوقائع هما اللذان يشدّان القارئ، لكنّ الحقيقة غير ذلك، بل هي على العكس تماما رواية شحيحة الشخصيّات قليلة الأحداث يمكن تلخيصها في كلمة نيرودا و هو ممَدَّد على فراش المرض ردًّا على ساعي بريده "ماريو خيمينث" وهو يسأله عمّا يشعر فيجيبه بكلّ بساطة: " أشعر بأنّي أحتضر.  و باستثناء ذلك ليس هناك ما هو خطير." أيّة مفارقة أجمل من لعبة اللغة توحي و تسخر و تمكر؟ لغة هي النسيج و اللباس و الرّائحة و الالتباس. تلتبس عليك الأحداث فلا تعرف ما الواقع و ما الخيال و ما السّحر، و تلتبس عليك الشخوص و الشخصيّات و الأشخاص فتتساءل: من البطل؟ و لا جواب.. كلّهم أبطال و لا بطل.
          " ساعي بريد نيرودا" أراد لها كاتبُها أن تكون رواية المسارات و الأقدار، أمنية رجل بسيط في أن يصير مشهورا و حلم شابّة بالحبّ و خوف أمّ على ابنتها و تاريخ وطن هو الشيلي في لحظة عاصفة على أيّام سالفادور ألندي في صعوده المظفَّر و سقوطه المدَوِّي الذي أحبط حلم ملايين البشر في ديمقراطيّة حقيقيّة و استبدله بكابوس أعتى الدكتاتوريّات العسكريّة التي عاشتها أمريكا اللاّتينيّة. هي رواية تتقاطع فيها الأقدار التي يفترض أن لا تلتقي. قدَرُ البحّار البسيط الذي يتحوّل بضربة حظ إلى ساعي بريد .. قدَرُ بابلو نيرودا الشاعر المناضل الشهير المنغرسُ في حياة البسطاء و تفاصيل خلافاتهم و حاناتهم الشعبيّة و هو ممزَّق بين السياسة و السّفارة المحتمَلة و بين القصيد و الجائزة المنتظرَة .. قدَرُ " ماريو" و هو يشحب حبًّا لـ"بياتريث" .. و قدَرُ بلد هو الشيلي يُمتَحَنُ في ديمقراطيّته .. مفارقات هي قمّة التناسق في التقائها، تماما كما تلتقي ماهيّات البحر و الحبّ و اللغة في اللاتناهي. إنّها ببساطة رواية مجدولة من ضفائر حكايتين أساسيّتين: حكاية حبّ فرديّة و حكاية ثورة شعبيّة. و ما الفرق حقّا ؟
يوم زفاف "ماريو" من "بياتريث" لبس نيرودا أفخر ما لديه، كان الزواج الكنائسيّ تدريبا على استلامه لمهامّه كسفير للشيلي الشيوعيّة في باريس.
          نحن إزاء رواية علامة في تاريخ الأدب العالمي. رواية، الشعرُ مبدؤها و منتهاها و مرجعُها   و مبتغاها فكلّ وظائفها السرديّة و أحداثها المفصليّة شِعرٌ على شعر، فالبحّارُ صار ساعي بريد للشاعر  و منه بدأ يسرق الأبيات قبل أن يسرق الصنعة ليغوي بها حبيبته، و الشاعرُ صار نجما بالشعر،         و بالشعر أصبح مناضلا.. علامة تؤكّدها الضجّة التي صاحبتها بعد أن تحوّلت الرواية إلى فيلم ثمّ إلى مسرحيّة  و رُشِّحت إلى أكبر الجوائز العالميّة و تُوِّجت بالعديد منها.. علامة تنساب المتعة مع سطورها كخَدَر الحبّ في العروق لذلك فهي تكره القارئ المُهَذَب و تنشد قارئا شبِقـًا لا ينتهي من الصفحة حتّى يستزيد إلى أن يفقد الوعي ... أي يسترجعه.
و مع ذلك، لم نسمع تصريحا للسياسيين الشيليين أنّ نيرودا سكّيرٌ فاسد و لم يسعوا إلى طمسه و تهميشه كعَلـَم من أعلام الثقافة الشيليّة.

Aucun commentaire: