lundi 11 janvier 2010

الـنَّـفَـــق


في ليلة الميلاد سطعت فوق رأس الصبيّ أنوار كالأقمار أو أشدّ ، و تلألأت أضواء الاحتفالات و مصابيح السيّارات و تراقصت في لوحة بهيجة و لا أروع . كان يحتلّ المقعد الأمامي حذو أبيه و تتنازل له أمّه عن مضض . الشوارع مكتضّة فالجميع في طريقه إلى زيارة قريب ما . كان الصبيّ يتشوّق إلى طعام جدّته و يتخيّل هداياها و هو يلصق وجنته ببلّور النافذة تخلبه الأنوار التي أخذت تتراقص في كلّ اتّجاه و تتمازج ألوانها فإذا بالمحيط يتضرّج بغلالة ورديّة تدرّجت بين قواتم و فواتح خفّاقة هفّافة و إذا بكون رحيب يمتدّ أمامه فتراءت له قصور شامخة تزيّنها شرفات و نوافذ و بيارق بديعة الألوان و تنبعث منها أنغام رقيقة تحلّق بالرّوح إلى عالم أجمل من الجمال. هنالك شاهد الصبيّ لعبا و هدايا و قوالب حلوى عملاقة ترصّعها كلّ أنواع الفواكه ، و سار بمحاذاة نهر زمرّديّ جارٍ ، تقوده عصافير و ببّغاءات قزحيّة الألوان بعضها يحوم حوله يسبقه ثمّ يعود إليه و بعضها تكتنفه أشجار غريبة ثمارها . النّسيم لذيذ و الرّوائح شذيّة .
حين انجلت الدّهشة أخذ يقفز و يترنّم و يضحك و يلاحق الفراش ، رأى أحصنة بيضاء تركض في السّهل السّندسيّ الفسيح و طواويس و طيور نعام و ظباء مرقّطة ...غمرت قلبَه سعادة عارمة حتى كاد يُجنّ ، ما هذا المكان البديع ؟ ألا تغرب شمسه ؟ ألا تنام كائناته ؟ أ يُعقل أن يكون هو ... ؟
كثيرة كانت الحكايات التي سمعها عن ليلة الميلاد و يستغرب أنّها لا تُروَى إلاّ إذا حان موعدها ليلفّها النّسيان باقي السنة. صديقه أحمد قال مرّة : " أنا ظللتُ ساهرا و رأيته من خلال النّافذة بقلنسوّته الحمراء و ... " انهال عليه الرّفاق لطما و لكما ثمّ انفجروا جميعا في ضحك بريء ، حين هدأت قهقهتهم نطق سامي بجديّة " في كلّ رأس سنة كنت أعثر على عدّة لعب في غرفتي ، أحضنها و أركض لأطلع أبي عليها فيبتسم لي ابتسامته الغائمة و يصمت . الآن أدرك أنّها كانت طريقته كي يشغلني فأتركه بسلام مع كأسه .. كم كنت أبله "، و قف خالد و قال " أبي يقول نحن مسلمون و هذا العيد ليس عيدنا ". فجأة اتّجه الأطفال إلى الصبيّ و بصوت واحد " و أنت يا رامي أتصدّق وجود الأب نويل ؟ " تردّد قليلا ثمّ حدّق في الفراغ كمن يخاطب نفسه " ممممم أظنّ ... أظنّ أنّ عربته لا يمكن أن تزحف على التراب ، ليس لدينا ثلج ، لو كان لدينا ثلج ... " و لمعت عيناه ببريق وعد. وجم الأطفال . مزّق صوت سامي الصّمت في احتجاج " ماذا يعني ؟ ألا تحقّ لنا الهدايا و الأمنيات ؟ " حينها عاد خالد ليقول " جدّتي تصعد إلى سطح المنزل في شهر رمضان، تقول إذا انفتح باب العرش يتحقّق لك كلّ ما تتمنّاه . صعدت معها السنة الفارطة و تمنّيت درّاجة و لم أحصل على شيء ".
العرش ... كلمة تدغدغ منه الشّعور و لكنّه لا يصدّق. لطالما تساءل عن نصيب من لا يمكنهم بلوغ السّطح ، بل ما ذنب من لا بيوت لهم أصلا ، و إن كانت للعرش قدرة على تحقيق كلّ الأمنيات فلماذا يحتاج إلى سماعها فوق السّطوح ؟ و في هذه الحال كلّما كان السّطح أعلى وصل الطلب أفضل و من لا سطح له لا حقّ له في التمنّي . كم ضجّ عقله الصغير بهذه الأسئلة و كم طرحها على أهل بيته فلم يظفر إلاّ بابتسامة لطيفة من هذا أو بدمعة مترقرقة من عين ذاك فنسي الأمر برمّته.
أمّا هنا، في هذا المكان السّحريّ البديع فقد وجد كلّ ما تاقت إليه نفسه ، انطلاق و انعتاق و نقاء جمال لا يحدّه البصر و ألوان و أشكال يقصر عنها الخيال، لا موانع لا حدود و لا قيود، فضاء تخجلك روعته فتغضّ النّظر و لا تجرؤ يدك على لمس عنصر منه ، فضاء يشعرك أنّك الذات الوحيدة الضّئيلة النّاقصة فتكاد تعتذر عن وجودك فيه و توقن أنّك محظوظ حين شملتك عناية قادرة و ألقتك فيه ...
فجأة ، حمل إليه الأثير أصوات أطفال . ضحك و غناء ، لم يميّز الكلمات لكنّها كانت أصوات أطفال صغار فتضاعف فرحه . أخيرا عثر على الرّفقة في هذا المكان الرّحب ، أخيرا سيشاركه أحدهم المرح . تبع حاسّته إلى مصدر الصّوت يدفعه فضوله فلمحهم في حقل الأقحوان ، مجموعة من الأولاد و البنات ، اقترب منهم فتفطّنوا إليه و ابتسموا له في هدوء ، توقّفوا عن الرّقص و الغناء و تحلّقوا به . راقه تشابه ملابسهم البيضاء ، لابدّ أنّهم ينتمون إلى نفس المدرسة .
بادرهم قائلا : " مرحبا ، أنا إسمي رامي " فلم يردّوا و ظلّوا على ابتسامهم ، يبدو أنّهم لم يهتمّوا أو لعلّهم لم يفهموه . و سرعان ما اطمأنّ حين سأله أحدهم بلغته :
ـ كيف كانت رحلتك ؟
ـ رحلتي ؟؟؟
ـ نعم ، ألم يُخِفك النّفَق ؟
ـ أيّ نَفَق ؟
ـ كلّنا عبرناه ، كيف وصلت إلى هنا إن كنت لا تعرف النّفق ؟
تلفّت حوله في ارتباك يحدّق في عيون الأطفال كمن يبحث عمّن يسعفه بجواب غير أنّ الأطفال في تلك اللّحظة أدركوا أنّ الصبيّ الجديد مختلف ، و في حركة جماعيّة أخذوا خطوة إلى الخلف ثمّ خطوات ، لاحقهم و هو يطلب منهم البقاء و يتوسّل أن يشرح له أحدهم لكنّهم واصلوا التقهقر و تضاءلت قاماتهم حتّى صارت أصغر من زهور الأقحوان ثمّ غابت تماما .
هبّ على السّهل هواء بارد ارتجفت له أطراف الصبيّ إلاّ أنّه تجلّد و قرّر العودة من حيث أتى ، أسرع الخطى يبحث عن الحيوانات و الأشجار ، كان يمنّي نفسه بالعثور على النّهر ، إذا وجد النّهر سيسير بمحاذاته كما جاء حتّى يصل إلى القصور التي رآها في بداية رحلته . أخذ يجري و يسلك كلّ اتّجاه فلم يعثر على شيء . امّحى المكان فلا مكان و رانت ظلمة موحشة ماد لها قلب الصبيّ لكنّه لم يتوقّف عن السّير ، ظلّ يمشي لا يرى موطئ قدميه حتّى لاحت له على المدى البعيد نقطة دكناء أشدّ سوادا من الظلمة المحيطة به فتجدّد فيه النّشاط و خفق قلبه . كان متأكّدا من العثور على أحد القصور ، سيلجأ إليه حتّى ينجلي الظلام ، لا بدّ أن يجد فيه من يدلّه على طريق العودة . وضعه نصب عينيه و أخذ يتقدّم بكلّ تصميم في اتّجاهه ، كم كانت المسافة طويلة ، لا يهمّ . طريق العودة دائما أطول و أشقّ . يذكر في رحلات المدرسة كيف كان مع أصدقائه يغنّون و يمرحون و تتعالى هتافاتهم طيلة الذّهاب و في المساء تعود بهم الحافلة في صمت و ضجر حتّى أنّ بعضهم يغلبه النّوم . فلا داعي للقلق هنا إذن ، كانت النّقطة الدّاكنة تكبر كلّما اقترب و لكنّه مازال لم ير مبنى القصر و تفاصيله . استمرّ في السّير حتّى وصل فإذا بنفق كبير مظلم يكتنفه ، ما إن وضع قدمه فيه حتّى انزلق و راح يتدحرج تتلقّفه جنبات النّفق الأفعوانيّ الرّهيب فضاقت أنفاسه . كان طفل الحقل محقّا حين سأله عن خوفه من النّفق ، إنّه فعلا مخيف .
لم يدر كم مضى من الوقت على سقوطه في ذلك الفراغ المظلم حين بدأ يصغي إلى همهمات بعيدة خافتة بالكاد ميّز بعض الكلمات ، كانت أصواتا مختلفة " إنّه يغيب ، إنّه يغيب ، أسرعوا .. نبضه ينخفض .. قلبه لا يستجيب .. الآن ، راقبي النّبض ، مرّة أخرى ... " فجأة شعر بزلزال يدكّ النّفق و تدفعه الرجّة أميالا إلى الأمام ، تعقبها رجّة ثانية ، فثالثة .
لاح النّور في آخر النّفق ، الآن اتّضحت الأصوات :
ـ أحسنت دكتور ، حقّقت اللّيلة نجاحا باهرا في جراحة صعبة .
ـ أنا لم أفعل شيئا ، هذا الصبيّ أراد الحياة .

8 commentaires:

Moghrama a dit…

هؤلاء هم الأطفال...إرادة حياة...أبدعتِ كسالف عهدي بكِ

WALLADA a dit…

مغرمة

شكرا صديقتي و مرحبا بك في حديقتك الثانية

brastos a dit…

هذا الطفل هذيانه جميل .. و رصدك لهذيانه أجمل
كل التشجيع

WALLADA a dit…

شكرا براستوس الفنّان

ETC...ثم a dit…

أسلوب جميل يا ولاّدة ، لكن ، لم أفهم الإنتقال من غيبوبة الحلم الى غيبوبة الجراحة

WALLADA a dit…

أهلا عنصر

لم يكن حلما يا صديقي ، كانت غياهب العالم الآخر كما تمنّاه و لأنّه تمسّك بإرادة الحياة فقد عاد أدراجه من العالم الجميل إلى الواقع عبر نفق الموت
هي رحلة في اللاوعي

Gouverneur de Normalland a dit…

جميل جدا صديقتي

ما لفت انتباهي هو التأثر الشديد لهؤولاء الصبية بتقاليد نوال. أنت ملمة حتما أكثر مني بعقلية الجيل الجديد
هل بلغ هذا الحد التأثر بتقاليد الغرب ؟

WALLADA a dit…

حاكم النورمالاند

بلغ تأثرهم أكثر ممّا تتصوّر يا صديقي

و لكن لاحظ أنّ الأطفال في الأقصوصة لا يصدّقون الرّواية الغربيّة و لا الشرقيّة لمسألة الخوارق