طال انتظارها لإنتاجه الجديد ، منذ افترقا لم تقرأ له شيئا . و لمّا زاد صمته عن حدّه توجّست أن يكون مكروها أصابه فصارت تستخبر عنه الرّفاق في غير مبالاة علّها تظفر بيقين أو ما يكدّر اليقين.
قالوا انقلبت عنده الموازين، أو هي اعتدلت لسنا ندري فلحيته طالت و كذلك وجومه و مكوثه في الحانة، و قصر خطابه و ابتسامه و ساعات نومه. أنباء تغمّ و لكنّها في قرار مكين منها توقّعت بشيء من السّرور ترعرع جنين في رحم تلك الحالة المنقلبة أو المعتدلة سيّان، كلّ خلق يسبقه مخاض.
حين تركته منذ سنتين لم تكن تخشى أن يضع حدّا لحياته في لحظة يأس، و لا أن يهيم على وجهه بأعتاب المساجد طالبا الهداية و لا أن يتنكّر للحبّ فيُعلن الحرب على الأجساد يلوكها ليلا و يلفظها عند الفجر .. كلّ ما كانت تخشاه هو أن يكفر بالإبداع فيتوقّف عن التنفّس و في ذلك موته و إن لم يضمّه لحد. سنتان قضّتهما في التردّد على دار النّشر التي تُصدر له، تسأل هل وصلهم مخطوط عمل جديد فيجيبون بالنّفي .. يجفّ حلقها و هي تنزل السلّم بسرعة كمن تلاحقها الأشباح، و تتعثر في الدّرجة المكسورة. و في كلّ مرّة نفس الإحساس بجفاف الحلق و نفس العثرة في نفس الدّرجة حتّى توقّفت عن الذّهاب و لم تفقد الرّجاء.
خطر لها أن تعرّج على مكتبة "الحاج" حيث كانا يلتقيان كلّما صدر له كتاب جديد. مكتبة قديمة تقع عند مفترق زقاقين في قلب المدينة العتيقة حَوَتْ كلّ نادر و نفيس مع حرص صاحبها على توفير الإنتاج الجديد و لكن بعد اختيار مرضيّ، تزدحم الرّفوف بالفهارس و دواوين الشعر و مجلّدات في النّقد و الفلسفة و التاريخ و الفقه و اللّغة. و كان "الحاج" لا يفوّت زائرا جديدا إلاّ و أطلعه بكلّ فخر عن النّسخة النّادرة للسان العرب التي أهداه إيّاها صديق عراقيّ له، و يروي له أطوار زيارته في الستّينات من القرن الماضي إلى بلاد الشّام و فلسطين و كيف كانت دور الطّباعة و النّشر عامرة و يتحسّر على قيمة الكتاب الآخذة في التقلّص يوما بعد يوم. و مع ذلك تظلّ مكتبته مفتوحة لروّادها كامل اليوم إلى ساعة متأخّرة من المساء.
كانت تتعمّد الوصول قبل الموعد لتدخل المكتبة تعاين عن كثب مدى إقبال القرّاء على إنتاجه، عددهم، أعمارهم، هيآتهم.. و ترهف السّمع لأيّ تعليق و "الحاج" من خلف نظّارته ذات الإطار الأسود الغليظ يتابعها و تجاعيد وجهه تغالب ابتسامة حنان. حين تلتقي عيناها بعينيه ترتبك و تتظاهر باقتناء كتاب و ما إن تلمح عبر زجاج الواجهة حبيبها قادما يحمل تحت إبطه مجموعة نسخ من كتابه الجديد حتّى تقفز إلى الباب لاستقباله فيُلقي التحيّة على "الحاج" و يمضيان معا إلى المقهى التقليديّ المجاور و سرعان ما يتحلّق حولهما الأصدقاء و الطّلبة فينهمك في إمضاء الإهداءات و يحتدم النّقاش حول الكتاب و لكن نادرا ما تصدر عن بعضهم ملاحظة حول رسم من رسومها، و كم كان يعذّبها تهافت الفتيات عليه و مزاحهنّ معه و تغيظها مجاملته لهنّ فتنكمش في مقعدها و تلعن في سرّها زحمة الأصدقاء. كانت تقنع نفسها أنّ ما يختلج بداخلها لم يكن غيرة من نجاحه بل مجرّد نقمة على هشاشة حضورها. و تعلو التعليقات و الضّحكات حتّى أنّ سيجارته تنطفئ أكثر من مرّة أو تقع عن منفضتها دون أن يشعر بها و يستمرّ ذلك كلّه حتّى يحلّ الظّلام. فيمسك بيدها و يسيران جنبا إلى جنب عبر أزقّة المدينة العتيقة إلى أن يبلغا شقّتهما الواقعة على مشارف الحيّ العصريّ. هناك يكون للاحتفال طعم و رائحة و لون، اسطوانة لمعبوده "جاك برال" و بعض كؤوس النّبيذ و ليلة حبّ. هكذا كان دأبهما في شتاء الأيّام و في صيفها، في أزماتها و في رخائها. هو يكتب و هي ترسم كلماته لتتربّع رسومها على غلافات كتبه حتّى كان يوم أحسّت فيه أنّها كوكب صغير يدور بدون غاية في فلك الشمس العظمى فقرّرت أن تكون لنفسها و تصطنع لذاتها مدارا فانفصلت عنه و انشغلت بإعداد معرضها التشكيليّ الأوّل.
اليوم مرّت كعادتها أمام مكتبتهما الأثيرة، وقع بصرها عليه. هكذا ميّزته من بين الجميع، هاتف ما خطف منها البصر و الإدراك فرأته يتوهّج عنوانه بانعكاس الشمس على بلّور الواجهة و اسم مؤلِّفه يتلألأ أسفل منه في خطّ أرقّ، غلاف أنيق و لكن بدون رسم، حجم صغير على غير العادة لكنّها لم تكترث المهمّ أنّه أنتج. اقتنت الكتاب على عجل خشية أن تصادفه فتضعف إن هي لقيته و ينهار مشروع مدارها الذي تسعى لخلقه. تركت المدينة خلفها و قصدت مقهى يقع على شاطئ البحر ترتاده كلّما رامت الاختلاء بنفسها، طلبت فنجانيْ قهوة و دفعت بثمنهما إلى النّادل حتّى لا يفكّر في إزعاجها و فتحت الكتاب.
" ... تريدون معرفة مضمون الكتاب؟ لن تظفروا منّي بشيء. انظروا في أنفسكم ففي باطن كلّ منكم كتاب، تحسّسوه و اقرؤوه و افهموه قبل معرفة كتب الآخرين و لتعلموا أنّ الكواكب الوحيدة النّائية لا تضيء إلاّ لنفسها و أنّ المتجمّعة فقط هي التي تنعكس أنوارها على بعضها فتتوهّج بها و تتلألأ، لا باثَّ و لا متقبِّل بل كتلة من النّور تزيح ظلمة الكون الكئيب. مذ غاب قمري انطفأت فلا أنا أرى نفسي و لا أنا أنير لغيري فأستنير ... " أغلقت الكتاب و سرّحت نظرة شاردة منها إلى الأفق البعيد، كلماته نفذت كالشّفرة الباردة إلى عمق أعماقها فنزفت زنابق و ياسمين.
تبّا لك أيّها الشقيّ، ماذا فعلت بي و بنفسك؟ كم هو جبّار حبّك هذا، توهّمت لسنتين أنّه حرّرني فإذا به يستعيدني كأعنف ما يكون تماما كسلطان المخدِّر لا خلاص منه إلاّ به.
تركتْ المقهى و ركضت إليه. شيء ما جعل قدميها تقودانها إلى مكتبة "الحاج" من جديد. في مدخل الزّقاق لمحته واقفا في ثلّة من الرّفاق و تشابكت العيون قبل الأيدي. عانقها مغادرا حلقة الأصدقاء و هو يهتف : " انتهى اللّقاء، نزل اللّيل و سطع القمر " و تركهم يحملقون في الشمس المتوهّجة في كبد السّماء.
قالوا انقلبت عنده الموازين، أو هي اعتدلت لسنا ندري فلحيته طالت و كذلك وجومه و مكوثه في الحانة، و قصر خطابه و ابتسامه و ساعات نومه. أنباء تغمّ و لكنّها في قرار مكين منها توقّعت بشيء من السّرور ترعرع جنين في رحم تلك الحالة المنقلبة أو المعتدلة سيّان، كلّ خلق يسبقه مخاض.
حين تركته منذ سنتين لم تكن تخشى أن يضع حدّا لحياته في لحظة يأس، و لا أن يهيم على وجهه بأعتاب المساجد طالبا الهداية و لا أن يتنكّر للحبّ فيُعلن الحرب على الأجساد يلوكها ليلا و يلفظها عند الفجر .. كلّ ما كانت تخشاه هو أن يكفر بالإبداع فيتوقّف عن التنفّس و في ذلك موته و إن لم يضمّه لحد. سنتان قضّتهما في التردّد على دار النّشر التي تُصدر له، تسأل هل وصلهم مخطوط عمل جديد فيجيبون بالنّفي .. يجفّ حلقها و هي تنزل السلّم بسرعة كمن تلاحقها الأشباح، و تتعثر في الدّرجة المكسورة. و في كلّ مرّة نفس الإحساس بجفاف الحلق و نفس العثرة في نفس الدّرجة حتّى توقّفت عن الذّهاب و لم تفقد الرّجاء.
خطر لها أن تعرّج على مكتبة "الحاج" حيث كانا يلتقيان كلّما صدر له كتاب جديد. مكتبة قديمة تقع عند مفترق زقاقين في قلب المدينة العتيقة حَوَتْ كلّ نادر و نفيس مع حرص صاحبها على توفير الإنتاج الجديد و لكن بعد اختيار مرضيّ، تزدحم الرّفوف بالفهارس و دواوين الشعر و مجلّدات في النّقد و الفلسفة و التاريخ و الفقه و اللّغة. و كان "الحاج" لا يفوّت زائرا جديدا إلاّ و أطلعه بكلّ فخر عن النّسخة النّادرة للسان العرب التي أهداه إيّاها صديق عراقيّ له، و يروي له أطوار زيارته في الستّينات من القرن الماضي إلى بلاد الشّام و فلسطين و كيف كانت دور الطّباعة و النّشر عامرة و يتحسّر على قيمة الكتاب الآخذة في التقلّص يوما بعد يوم. و مع ذلك تظلّ مكتبته مفتوحة لروّادها كامل اليوم إلى ساعة متأخّرة من المساء.
كانت تتعمّد الوصول قبل الموعد لتدخل المكتبة تعاين عن كثب مدى إقبال القرّاء على إنتاجه، عددهم، أعمارهم، هيآتهم.. و ترهف السّمع لأيّ تعليق و "الحاج" من خلف نظّارته ذات الإطار الأسود الغليظ يتابعها و تجاعيد وجهه تغالب ابتسامة حنان. حين تلتقي عيناها بعينيه ترتبك و تتظاهر باقتناء كتاب و ما إن تلمح عبر زجاج الواجهة حبيبها قادما يحمل تحت إبطه مجموعة نسخ من كتابه الجديد حتّى تقفز إلى الباب لاستقباله فيُلقي التحيّة على "الحاج" و يمضيان معا إلى المقهى التقليديّ المجاور و سرعان ما يتحلّق حولهما الأصدقاء و الطّلبة فينهمك في إمضاء الإهداءات و يحتدم النّقاش حول الكتاب و لكن نادرا ما تصدر عن بعضهم ملاحظة حول رسم من رسومها، و كم كان يعذّبها تهافت الفتيات عليه و مزاحهنّ معه و تغيظها مجاملته لهنّ فتنكمش في مقعدها و تلعن في سرّها زحمة الأصدقاء. كانت تقنع نفسها أنّ ما يختلج بداخلها لم يكن غيرة من نجاحه بل مجرّد نقمة على هشاشة حضورها. و تعلو التعليقات و الضّحكات حتّى أنّ سيجارته تنطفئ أكثر من مرّة أو تقع عن منفضتها دون أن يشعر بها و يستمرّ ذلك كلّه حتّى يحلّ الظّلام. فيمسك بيدها و يسيران جنبا إلى جنب عبر أزقّة المدينة العتيقة إلى أن يبلغا شقّتهما الواقعة على مشارف الحيّ العصريّ. هناك يكون للاحتفال طعم و رائحة و لون، اسطوانة لمعبوده "جاك برال" و بعض كؤوس النّبيذ و ليلة حبّ. هكذا كان دأبهما في شتاء الأيّام و في صيفها، في أزماتها و في رخائها. هو يكتب و هي ترسم كلماته لتتربّع رسومها على غلافات كتبه حتّى كان يوم أحسّت فيه أنّها كوكب صغير يدور بدون غاية في فلك الشمس العظمى فقرّرت أن تكون لنفسها و تصطنع لذاتها مدارا فانفصلت عنه و انشغلت بإعداد معرضها التشكيليّ الأوّل.
اليوم مرّت كعادتها أمام مكتبتهما الأثيرة، وقع بصرها عليه. هكذا ميّزته من بين الجميع، هاتف ما خطف منها البصر و الإدراك فرأته يتوهّج عنوانه بانعكاس الشمس على بلّور الواجهة و اسم مؤلِّفه يتلألأ أسفل منه في خطّ أرقّ، غلاف أنيق و لكن بدون رسم، حجم صغير على غير العادة لكنّها لم تكترث المهمّ أنّه أنتج. اقتنت الكتاب على عجل خشية أن تصادفه فتضعف إن هي لقيته و ينهار مشروع مدارها الذي تسعى لخلقه. تركت المدينة خلفها و قصدت مقهى يقع على شاطئ البحر ترتاده كلّما رامت الاختلاء بنفسها، طلبت فنجانيْ قهوة و دفعت بثمنهما إلى النّادل حتّى لا يفكّر في إزعاجها و فتحت الكتاب.
" ... تريدون معرفة مضمون الكتاب؟ لن تظفروا منّي بشيء. انظروا في أنفسكم ففي باطن كلّ منكم كتاب، تحسّسوه و اقرؤوه و افهموه قبل معرفة كتب الآخرين و لتعلموا أنّ الكواكب الوحيدة النّائية لا تضيء إلاّ لنفسها و أنّ المتجمّعة فقط هي التي تنعكس أنوارها على بعضها فتتوهّج بها و تتلألأ، لا باثَّ و لا متقبِّل بل كتلة من النّور تزيح ظلمة الكون الكئيب. مذ غاب قمري انطفأت فلا أنا أرى نفسي و لا أنا أنير لغيري فأستنير ... " أغلقت الكتاب و سرّحت نظرة شاردة منها إلى الأفق البعيد، كلماته نفذت كالشّفرة الباردة إلى عمق أعماقها فنزفت زنابق و ياسمين.
تبّا لك أيّها الشقيّ، ماذا فعلت بي و بنفسك؟ كم هو جبّار حبّك هذا، توهّمت لسنتين أنّه حرّرني فإذا به يستعيدني كأعنف ما يكون تماما كسلطان المخدِّر لا خلاص منه إلاّ به.
تركتْ المقهى و ركضت إليه. شيء ما جعل قدميها تقودانها إلى مكتبة "الحاج" من جديد. في مدخل الزّقاق لمحته واقفا في ثلّة من الرّفاق و تشابكت العيون قبل الأيدي. عانقها مغادرا حلقة الأصدقاء و هو يهتف : " انتهى اللّقاء، نزل اللّيل و سطع القمر " و تركهم يحملقون في الشمس المتوهّجة في كبد السّماء.
11 commentaires:
قصة جميلة ، كالعادة
حيّوتة الغالية
شكرا و مرحبا بيك كالعادة
أدوّن أنا للرّيف و تدوّن ولادة للمدينة ....يخفق القلب للمكان الذي نحب
أهلا بالحلاّج
فعلا وحده القلب يخفق فيقودنا
حتّى و إن حاولت الكتابة عن الرّيف تعسّفا منّي فلن أضاهي براعتك فلماذا التطفّل ؟
غير أنّنا نتكامل يا صديقي
شكرا صديقتي ولاّدة...هذا تواضعا منك
حلاّج
صدّقني لم يكن تواضعا ، تلك كانت حقيقة لا ينكرها إلاّ من أعماه غروره
سعيدة دوما بالقراءة لك
BRAVO
9issa 7louwa , mais c'est surtout le style elli chadni akther.
bien que el 9issa 9sira mais feha barcha 7wayej,
ya3tik essa7a
@ Anonyme
y7alli ayémek et merci
أهلا ولادة نص جميل جدا ...الجملة هذي عجبتني برشا
كانت تقنع نفسها أنّ ما يختلج بداخلها لم يكن غيرة من نجاحه بل مجرّد نقمة على هشاشة حضورها
ممممم... بنينة ياسر
:)
أهلا دوف زارتني البركة
هههههه ضحّكتني كلمة جملة بنينة ياسر
Enregistrer un commentaire