مولعة أنا بالنّوافذ ، عاشقة لكلّ كوّة تطلّ على السّماء. منذ عهد الصّبا الأوّل كان سريري حذو النّافذة، كانت والدتي ترخي السّتائر خصوصا في ليالي الشتاء و لكنّي كنت أزيلها بمجرّد أن ينطفئ النّور و أرفع رأسي لأحدّق في الظلام أو في ظلال أشجار الحديقة إذا كانت اللّيلة مقمرة. في المدرسة، كان المغفّلون يتناحرون من أجل الطاولة الأماميّة و أحتلّ مقعدي قرب النّافذة. إذا ركبت القطار أحرص دائما على أن يكون مكاني قرب النّافذة. في صباحات الشتاء الباردة، يحتفظ زجاج النّوافذ بصفحة من البخار، بإصبعي كتبتُ على البلّور كلماتي الأولى، إسمي، توقيعي الأوّل، كلّ ما كان يخطر بعقلي. كنت أطوف بكلّ الغرف و أتوسّل والدتي ألاّ تنظّف زجاج النّوافذ قبل أن أكتب عليه كلّ ما أريد. كان مُدوّنتي، جداري، كرّاسي، لوحي غير المحفوظ و عالمي الذي أرسم عليه كلّ معارفي آنذاك و كلّ أحلامي .. حتّى إذا زال البخار و سالت قطرات الماء من ذؤابات الحروف كالدّموع كأنّما تودّعني الكلمات، لم أكن أحفل بدموعها، كنت أبتسم فالطّفلة العنيدة فيّ ستعود إلى الكتابة في الغد و بعد الغد و بعد بعده حتّى ينقضي فصل الشّتاء
حين يتنفّس الكون ربيعه تطفح نافذتي بألوان و لا أروع، أطِلّ منها على حديقة البيت، تتفتّح أزهار الخوخ و اللّوز و اللّيمون و تتفتّق أكمام النّرجس و الأقحوان و السّوسن و تغدو صفحات الورود مسارب لقطرات الطَلّ، تؤمّهاالفراشات المتراقصة و ترفرف العصافير و تملأ جوقتها الفضاء في تناغم لا يحتاج قائد أوركسترا.. جمال ساحر، جوهر لا شبيه له بيني و بينه النّافذة إذا انتهت حصّة المرح في الحديقة و حان وقت الدّخول تبقى النّافذة شاشتي و معراج الخيال و سبيل الحريّة
مازلت أحتفظ بمكتبي أمام النّافذة، تتدلّى قبالتها أغصان شجرة مزهرة مددتُ لها خيوطا من صوف تعاضد أعرافها الليّنة الفتيّة فتتشبّث بالخيوط و تتبع مسارها لتتّشِحَ نافذتي بألوان الزمرّد و الياقوت و تزورني الطّيور مطواعة كلّ صباح توقظني على لحن الحياة و تنقل لي همس من أحبّ عندما يأتي المساء. هو ذاتٌ في حجم إله و العكس غير صحيح. ما عساها تكون أقوى خوارق الآلهة؟ الخَلق؟ إن كان على الخلق فمَن أهوى يبعث شخوص رواياته من العدم، يشتدّ به فِعْلُ التشكيل و يعربد فيُؤصّلها تأصيلا فإذا بها حيّة نابضة تتحرّك في ثنايا الرّواية، و متى تمرّدَتْ و رامت الإفلات عبر بوّابات التّيه أعادها صاغِرة إلى أقدارها كما هو شاءها. إلهٌ لا يعِدك بالنّعيم و لا يتوعّدك بالجحيم، حسْبُه صمتُه الجحيم، ذروة الشبَق لديه خمرة و كتاب و مِن ثَمَّ تبدأ طقوس التحليق في ملكوت الفكر المقدّس
أيّها النّاطق المُفكّر المُتكلّم الكاتب، من أجلي سوف تضيف إلى صفاتك النّورانيّة صفة جديدة، فقد اصطفيتُك لتترافعَ عنّي أمام محكمة السّماء و تقول للمحَلّفين أنّني أستحقّ عُمْرًا آخر أعيشه كما أشتهي لأنّ عمري باطل. أخبِرهم أنّ مولدي كان على أعتاب النّكسة و أنّ مراهقتي شهدت ثورة الخبز و حضر التّجوّل و شبابي سمّمته حرب الخليج، قل لهم أنّي لم أعد أحفل بالأعياد منذ أعدموا رئيسا عربيّا ذات عيد، إرْوِ لهم كيف أقف طول النّهار كالطّوْد و أدّخر اللّيالي لأذرف ألف دمعة على العروبة المهزومة و الكرامة السّليبة و الحريّة مبتورة الجناح ، صوّر لهم كيف لم أعد أستلذّ الطّعام و الفاكهة بعد أن ارتوى البرتقال بدماء الأطفال في مذابح غزّة و قانا و صبرا و شتيلا و دير ياسين ، أخبرهم أنّ الإرهاب يلوّث أيامنا و ينسف عوالمنا الجميلة إن بقيتْ لنا عوالم أصلا. قل لهم إنّ نافذتي صارت تطلّ على الإسمنت و القذارة و أنّ طريق المدرسة المزدان بأشجار السّرو و الصّنوبر صار ملاذا لأكوام العاطلين و السّكارى و المُخَدَّرين و أنّ الحدائق و المسارح و المدارس و الجامعات لوّثتها اللّحيّ و القنابل الموقوتة. ألا أحتاج بعد كلّ هذا إلى عمر جديد ؟ أريد قرنا آخر من أجل الحبّ و الفرح في كوكب بلا حروب و لا مذابح و لا مجاعات و لا أوبئة و لا اغتصاب للقاصرات باسم الزّواج الشرعي. لا يعيش الحبّ تحت مظلّة الخوف و المُحرّم و الممنوع، لا ينتعش و يُجنّ جنونه في حضن الهوان ، قل لهم أنّنا صرنا نخشى فتح النّوافذ حتّى لا يتفطّن الأطفال أنّنا نعيش داخل الكهوف ، أخبرهم أنّنا هُـنَّا حين هان كلّ شيء و أنّ أرض العرب تنبت كلّ الخيرات لتنتفخ البطون و يخرج منها نفط كثير كي لا تتوقّف جرّافات إسرائيل و دبّاباتها فمن ينقذ ثمالة كبرياء؟ فكيف لا تمنحنا السّماء عمرا آخر؟
لو أصغى المحلّفون إلى مرافعتك و صدر الحكم لصالحي حينها تصير فاعِلا و ما من فاعل دون حركة إعراب فتعالَ أضمّكَ ضمّة ظاهرة لا تخشى الرّقيب فأرفعك إلى البدايات و الفجر اللازوردي ، هناك ستذيع الأقداح و تردّد أنّ ربّة الشعر و الفنون أحبّت إله الخمر
3 commentaires:
عمر آخر قليلة، عمران وكسوة :)
مثلك يفسد المرافعة بمطالبه المجحفة يا أبا قلب هههه
@ Nawras
t'es la bienvenue tjr
Enregistrer un commentaire