تــؤثّثُ الجدرانَ لوحاتٌ تشكيليّة لرسّام عاش مُعدما مغمورا و لم يحصل على عنقوده إلاّ بعد أن قضى نحبه ـ احتراما لصدق الرّؤيا ـ .. بهوٌ ضيّق يحتلّه معرض للأواني القديمة و القطع الفنيّة النّادرة .. نغمٌ أصيلٌ ينبعث في فضاء المكان يُـثقل الرّؤوس و يُحرّر ما وعَدَه النّبيذ .. أصواتٌ متحشرجة ثملة تشدو بلحن ملتزم .. مسرحيّون و أدباء في نقاشات محتدمة ، مشهد تمثيليّ دون ركح أو تذاكر .. شاعرٌ يجلس وحيدا هناك إلى طاولة في الرّكن وحيدة يحتسي كأسا تعدّدتْ في وحدتها القوارير .. تعلو حوارات عن واقع الثقافة ..
و الخمرُ تسخر ...
" هذا مطعم المثقّـفين كما يروق للبعض تسميته . " يستطرد مُخاطِبي . فلا أفهم كيف لهذا المكان أن يسَعَ المثقفين إذا اجتمعوا أم تراهم لا يفعلون ، و لماذا لا يرتاده إلاّ المثقفون ؟ ألا حقَّ فيه لكلّ عَييٍّ ساذج داخل في الرّعاع ؟ أنتبه إلى ثـقبٍ أسْودَ في منديلي ، لا شكّ أنّ سيجارة أحدهم سفّهتْ بياضَه .. لا أطلب من النّادل تغييره و أثني المنديل أخفي الثقب و أحفظ للثقافة هيبتَها .. يبوءُ مسعايَ بالفشل حين يضع النادل أمامي كأسا مشروخة ، فأوقنُ أنّه مطعم المثـقفين .. عقارب الساعة الحائطيّة تُـنبئ بزحف المساء على المدينة و لا أحد يهتـمّ .. شرذمة المنبوذين من عالم الصّحْو لا يزالون بين كأس و حوار .. لا همسَ ، لا عُشّاق .. لا عيون تسترق من الزمن نظرة حالمة .. لا أيدي تتشابك في رعشة وعد ..
و الخمرُ تلعن ...
فجأة ينفتح البابُ عن سيّدة في إثرها أخرى فتستيقظ العيونُ و تستدير الرِّقاب .. تتقدّمان دون ترحيب من النادل و تنتبذان طاولة قصيّة . الأولى ، كرَّ عليها خيلُ الزمن فأحرق و دمّر و نهب و لم يُخلّف سوى التجاعيد و هيكلا يبابا ، و الثانية ربيعٌ لا زهرَ فيه .. وجهٌ شاحب و جسد صامت يلفّه ثوبٌ بسيط .. تتركّز عليهما الأنظار و يخفتُ الصّخب ، و أضيق بالعقل الشرقيّ لا يزال يعجب لموعد بين امرأتين في مكان عامّ و يحوك حوله المشبوه . يهمس مخاطِبي و قد أدرك ثورتي " لا تلتفتي .. تلك مومس و الكبرى مُشغِّـلتها . " يسقط فَـكّي السّفلي و يزيغ بصري ... طالما تخيّلتُ المومسَ بمساحيق فاقعة و رموش مستعارة و ملابس فاضحة و ضحكة رقيعة ، أو ذاك ما احتفظتْ به ذاكرتي من السينما و الروايات القديمة .. يوم قرأتُ للسيّاب " المومس العمياء " عرفتُ أنّ للتعاسة وجهًا و كفرتُ بالأحكام المسبقة . لكنّ المشهد هنا فوق كلّ حكم و ما تخيّلتُ ... يتقدّم الليل ، و أنشغل بنقاش رفيقي .. ينسحب بعضُ الزبائن بعد أن صار ما في جيوبهم عاجزا عن أداء الكأس زكاتَـَها ..
و الخمرُ تمتعض ...
يمرُّ وقتٌ ما قـدّرتُه و ألتـفتُ فجأة فلا أرى الفتاة .. أبحث عنها بين الموجودين فيُـعييني البحث .. أشاهد مرافِـقتها في طاولة أخرى تنعم بالأنس و الطعام و قارورة خمر رخيص .. أهرع ببصري إلى صديقي فتجيبني إيماءة رأسه دون كلام تُـؤكّد ما ذهب إليه ظنّي .. ما أقبح اليقين . هكذا إذن يُـباعُ فروُ الدُبّ ليَحْضَى السَّـفَـلةُ بالدّفء ؟ الفكرُ هنا مصلوبٌ و الثقافة يتيمة فمَنْ ذا يرفع قميص القتيل على رؤوس الرّماح و يستصرخ " وا ذُلاّه " .. يُسعفني مُخاطِبي " الثّـأرُ مغامرة غبيّة و وَهْم الأوّلين . " يدفع الحساب و نغادر المطعم ...
و الخمرُ تتبدّد ...
في الشارع حرارة خانقة .. أطفالٌ عُراة يسبحون في نافورة صُمِّمَتْ لتزيين المدينة .. رجلٌ ينبش عن عشاء في حاوية القمامة .. و ثانٍ يصوّبُ ذكَرَه إلى جدار مكتبة و يقضي حاجتَه .. و آخران يتقاذفان بكلّ ما احتواه معجمُ الجنس بل لعلّهما يُحقّـقان فتحا جديدا في اللغة تسجّله الأجيالُ حين تُـنَقّحُ المعاجم . يُشيرُ صديقي إلى سيّارة أجرة .. أركبها في إعياء .. يُطلّ من النافذة و يقول لي في ابتسام قبل أن نفترق " لا تنزعجي ، نحن في الألفيّة الثالثة .. هي ثقافة الجسد . " أودّعه و تمضي بي السيّارة .. إنّها المرّة الأولى التي لا أقبّـلُـه فيها لحظة الوداع . أغمض عينيَّ عن الطريق مخافة أن أفتحهما على ماخور كبير .
13 commentaires:
قال المسعدي :"يثقل الكون إذا همّ أن يكون"
أمّا الحاضر فلا همّ يثقل ولا هم يحزنزن هي ثقافة العهر والهمّ لا ثقافة الجسد إنّه أطهر
@ bacchus
الجسد طاهر ما لم يتلوّث الفكرُ بالعهر و الهمّ و النّذالة و هذه ليست الحال
شنية قيمة الثقاقة إذا كان المنديل موش مثقوب؟ والكاتب موش "مرامدي" والقلم فحمة مرعوبة؟ .. أما طهارة الجسد فأحيلك على كتاب :"طهارة الجسد يوم لقاء الواحد الأحد" .فهو كتاب قيم
أهلا آرت
يسعدني مرورك و تعليقك
شكرا على الإضافة
Souvent, quand je passe par là, il m'arrive de maudire la langue de Molière, qui m'a privée de ma langue mère!!Je comprends parfaitement mais je n'ose jamais m'exprimer , ne serait-ce qu'en commentaires!! Magnifique texte!!!
@ moghrama
لا عليك صديقتي اكتبي بأيّة لغة ترتاحين للتعبير بها فكلّ ما تقولين يصل مباشرة إلى القلب و يبعث فيه الدفء
سعيدة دائما بإطلالتك الرّقيقة
قي الواقع أرجعنا النصّ الى الجقيقة...الحقيقة العارية بكل تفاصيلها...نعم ، تلك هي مضارب المثقفين ، أعتقد أنه لم يغب على المشهد العام إلاّ طاولة شرطة أمن الدّولة
مرحبا بالحلاّج
ما قلتَه صحيح غير أنّي تعمّدتُ إغفالَه، و ما جدوى ذكره حين أرانا جميعا رقباء نُحصي عل بعضنا الأنفاس فالبعض صار وكيلا على الثقافة و البعض الآخر صار وكيلا على الدين و الأخلاق و الكلّ نصّب نفسه مُدافِعا على الوطنيّة
فين المطعم هذا يا ولادة في حلق الواد؟
سفيان
هل ترى فعلا أهميّة يمكن أن تُعَلّق على المكان ؟
فقر الفكر هو المسؤول الأول عن نشر فكر الفقر
شيئ يأسف وبرة خاصة ان المشاهد هذي اصبحت عادية
تدوينة جميلة ولادة
les kestions mte3 soufien sont des kestions mte3 amen aldawla hahahaha
@ Anonyme
عيب عليك
مرحبا دوف
يسعدني مرورك و تفاعلك
Enregistrer un commentaire