vendredi 20 mai 2011

إهداءٌ من مجهولـة



أهو الفضولُ ؟ أم حاجة إلى الكتابة ؟ أم .. قدَرٌ يجعل دائما كلَّ قصّة فرديّة موازية لقصّة جماعيّة ، لا ندري أيَّ واحدة منهما تكتب الأخرى. و إلاّ فما تفسيرُ تلك المفاجأة التي كانت تنتظرني بعد شهر من الثورة؟وإذا بي أنا التي لم يفارقني هاجس اللقاء في كلّ مكان ذهبتُ إليه،أعثر عليه حيث لم أتوقّع ، في كومة قمامة لم يرفعها أعوانُ التنظيف نكاية في رؤسائهم أو تماشيا مع الفوضى التي عقبتْ الثورة. كان مخطوطا التقطتُه قد لطّختْه الدّماءُ و آثارُ أقدام. أحِبُّ تلك الهدايا التي تقدّمها لكَ الحياةُ خارج المناسبات فتقلبُ بمصادفة حياتَك. حتّى تلك التي كهذه يرمي لك بها القدَرُ أرضًا فتنحني لالتقاطها ممتَـنًّا لأنّكَ تعثّرتَ دون قصد .. بالحبّ. و ماذا لو تكون قد تعثّرتَ بشيء آخر ؟ راحتْ قدماي تتقدّمان حيث لا أرى و نظري عالِق بالمخطوط.



.........................................................................................



" كـنّا قبل الثورة عاشقيْن في ضيافة الكلمات، رتّبَ لهما النّبيذ مقعدَ صدْقٍ فوق مدينة الصّمت. نسينا لبضعة أشهر أن نكون على حذر، ظنًّا منّا أنّ كأسًا متوهّجة و سنفونيّة تتسلّل في رفق إلى الرّوح كفيلان بحراسة العشّاق. إنّ حبًّا وُلِد في زمن الممنوع لا يمكن أن تحميه المتاريسُ المتاحة ضدّ زحف الحزن. أكنّا إذن نتمرّن على رقصة السّعادة أثناء اعتقادنا أنّ اللقاء فعلُ مقاومة ؟ أم أنّ بعض الشجن من لوازم العشّاق؟



التقيْنا ذات مساء من مساءات الثورة. كان همّي كيف أفكّكُ لغمَ الحبّ بعد أن تجشّأ الشارعُ ، كيف أنزع فتيلَ الشوق دون أن تصيبَني شظايا البوح. كنتُ أبحث عن كلمات مُتعذرة اللفظ كما العواطف المترفِّعة عن التعبير ، كما البلد العَصِيّ عن النّحيب رغم عدد الجثث و سواد الحريق. وددتُ لو استطعتُ البكاء ، لا لأنّنا معًا بعد غياب ، لا لأنّي لم أشْـفَ منكَ و أنّي تعيسة بدائي العضال ، لا لأنّنا ثرنا ، بل لجماليّة البكاء أمام حدث مُدهِش لن يتكرّر ، على الأقلّ خلال السنوات المتبقية في عمر كليْنا.



كنّا في غرفة الجلوس مُتقابليْن على مرمَى خيانة من جهاز التلفزة ، ذاتيْن أخرسَهما الذهولُ و الفرحُ و التوجّس، و المنضدةُ بيننا ترثي رحيقَ الموعد ، لا زجاجة و لا أكوابَ و لا حتّى قطعة جبن من زمن البُؤس. لا شيءَ على المنضدة سوى قلميْنا و بضع أوراق بيضاء. أمام زخم الأحداث كلّه خلال الثورة كان لا ينتابُني غير هاجس التفاصيل ن مُتربِّصة دوما بالكتابة، و كانت الكتابة بجواركَ طقسا قديما للبغاء المقدَّس، كنتُ أبحث عن لذة الوجع في فظّ القلم لبكارة الصفحة الأولى، يا للغباء! كان لابدّ أن أقرأ كلّ الذين راودوا تلك اللذة الزائفة. لا أذكرُ أنّي رأيتُكَ يوما تكتب، أكنتَ تخشى أن تتعرَّى أمامي؟ و هل كانتْ رواياتُكَ السابقة مُطارَحَة للفكرة على سرير اللغة بمنأى عن عين رقيب ترصد فعلَ العشق؟ لم أشاهدكَ إلاّ و أنتَ قارِئ. قلتُ لكَ يوما إنّ بيتَكَ يُشبه قاعةَ مطالعة في مكتبة عموميّة. كنتُ أعتبرُكَ كتابا جميلا بعثَرَ أشيائي منذ صفحة الإهداء، و خشيتُ الكارثة في نهايته. و كيف لا أخشى جمالا كان يلزمني عمرٌ من البشاعة لبلوغه.





رقصَتْ تونس في شتاء 2011 على إيقاع الرّصاص ة ثملتْ بأكواب مُترَعَة بالدّماء، كان رقصا غاضِبا صاخِبا أيقظ الأجوار، و كان يُذكِّرُني براقِصة إسبانيّة شاهدناها معًا ذات صيف، أتذكرُ ثوبَها الأحمر مكشوف الظهر و ذيله الطويل المسترسل إلى الأرض تحرّكه في براعة متناهية؟ كانتْ تعقدُ شالاً أسودَ على خصرها، و في شَعرها الأسود الكثيف تشبك وردة حمراء، ملامحُها جادّة صارمة و النّظرة حزينة. كان يلزمها ركحٌ من خشب خاصّ يصمد لكعب حذائها في حركات قدميها العصبيّتين. مَن يحضرْ يوما حفلا لفرقة فلامنكو فلن يجد النّومُ سبيلا إلى جفنيه و إنْ أضناه السّهر.



رقصَ البلدُ على هتاف الحناجر رقصة الموت و الحياة ، و كنتَ بعد كلّ رقصة تعود إلى البيت لتحترف البكاء. قرأتُ لصديقة تقول " كان يومُ 14 جانفي يوما جميلا للموت." ابْـكِ أيّها الشقيّ فالموت يُمازحُكَ مادام يُخطِئكَ كلّ مرّة ليُصيب غيرك ، ابْـكِ و أدخِلْ تعديلا على روزنامتك لتستدلّ على منعطفات عمرك، و اعتمِدْ على التراتب الزمنيّ لإفلاتكَ من الموت، و لا تـُلجِمْ نزعتك للأمل كما لجمتَ نزعتك إلى الغضب، أطلِقْ عنان السخرية من زمن كنتَ تسكت فيه على ضياع حقّ أو تجنّي امرأة أو خيانة صديق. "



...........................................................................................



لم يحْدُث للحبّ أن كان مُجاوِرا للموت إلى هذا الحدّ. أردتُ أن أتساءل كيف يحدث ذلك، لكنّ المخطوط سرق سؤالي و جدّف بي في قِبلة مفاجِئة.. فاستسلمتُ لاجتياح الكلمات.



.............................................................................................



" أدمنتُ شوارع العاصمة ، كان بابُ البحر يُغريني باللقاء ، ربّما لأنّ له مخزونا عاطفيّا في ذاكرتي منذ كنتُ أمرُّ به في مواسم الأعياد رفقة الأهل لنركب القطار الأبيض ، و كنتُ في سنوات الشباب أطيلُ الوقوف أمام مبنى المسرح البلدي و أحدِّثُ نفسي بأنّ بلدا به مثل هذا المبنى ، لا يمكن أن يجور عليه قبحٌ أو ظلم أو غباء. لكنّي بدأتُ أتوجّس ثقافة القبح يوم أبعدوا باعة الزّهور ، و أدركتُ أنّ سياسة الغباء رانَتْ حين أصبح عددُ المُخبرين يفوق عدد الحرفاء في المقاهي ، أمّا عندما اختنق الشارعُ بخيام بنفسجيّة لعرض إنجازات الانقلاب ، أيقنتُ أنّه عهد ظلم. كان بابُ البحر في إدراكي محرارا لحالة البلاد. أحسستُ يوم وصلتْ إليه الثورة أنّ السكّين ترك قطعة الزبدة و انغرستْ شفرتُه في كفـِّي. فرْقٌ كبيرٌ بين أن تتضامن مع مُتظاهِرين و أن تخرج مُتظاهِرا. رأيتـُكَ خلال الأيّام الدّامية للثورة ترصد ذبذبات الشارع تَدخله كما تَدخُل معتقلات الكآبة الجميلة ، كنتُ أدعوكَ لروعة الفِعل فتـُفلِتُ ذراعي لتستأنف حياةً بدأتَها في كتاب ، كأنّكَ موجود لاستئناف حياة الآخرين ، تُفاجِئكَ ألفة المكان ، تَدخُله كبطلٍ في رواية لتتأكّد أنّ الأشياء حقيقة أو لتتأكّد أنّكَ تعيش لحظة حقيقيّة و لستَ هنا لمواصلة التماهي مع أبطال وهميين. مَشاهِدُ توحي لكَ أنّكَ تعرفها و هي ليستْ كذلك ، لحظاتٌ تتوهّمُ أنّكَ عشتَها و هي ليستْ كذلك. فأيُّهما فيكَ الأكثرُ حزنا: القارِئ الذي انطلتْ عليه خدعة الرّواية؟ أم البطل الذي انطلتْ عليه خدعة المُؤلِّف؟ أهيَ مُعابَثَة للذاكرة؟ أم تَـذَاكٍ على الكتابة؟ أم .. حاجَتـُكَ أن تموت لأنّكَ مللتَ ذلّ البقاء؟







في زمن الهوَس المكتوب بالمجازر و بالمَشاهد البشعة ، مَن يُصدِّقُ النّوايا الحسنة لأديبٍ يُتيحُ له القلمُ حقَّ ملاحقة الحدث ببراءة إبداعيّة ؟ ليستْ أخلاق المروءة بل أخلاق الكتابة هي التي تجعل الكاتِب يُفضِّل على نجدة الضحيّة تدوينَ لحظة مأساتها. مَنْ كان يظنُّ أنّ هروبَ الطّاغية فصْلُ الختام فهو واهِم. ها هي ذي الجرائم أمامكَ على مدى البصر، أيّها الكاتِبُ ... قـُـمْ ، فاكتـُـبْ. "



.............................................................................................



في متعة القراءة كلمة عبور و شيفرة ذهنيّة تجعل من الشخص معبودَ ما يقرأ دون عِلمِه. و هذا المخطوط المُلوَّث المُهمَل ، مَنْ دَلـَّه على متعتي كي يسلك ممرّاتٍ سِريَّة للشجَن لم يَعبُرها مكتوبٌ قبله؟ سعدتُ باختراقه جدرانَ حيرتي و شعرتُ أنّي أطوِّقـُه كشَريكٍ في رقصة ، و أتسلـّلُ إلى عالمه الحميميّ. فجأة قرأتُ بفضولِ مَنْ وقع على سِـرّ.



.............................................................................................



" ثمّ رأيتـُـها ... أمام مقهى الكابيتول.

ماذا كانتْ تفعل هناك تلك الصبيَّة الجالسة وحيدة على رصيف الذهول؟ كان الجميعُ منشغِلين عنها بالرّكض في كلّ اتّجاه ، بضع مئات رفضوا الانسحاب من الشارع رغم الغاز الخانِق و الطلقات الناريّة ، كلُّ مَن تعثـَّر أو وهنتْ قدماه عن الرّكض أو اقترب كثيرا من حواجز رجال الشرطة وقع تحت وابل هراواتِهم قبل أن يُحشَر في إحدى سيّاراتهم. كانتْ عيناي تستجديانكَ بين الحشود ، لم تعُد الوجوهُ تساعِد على التمييز بعد أن اشترَكَتْ في الجراح و العيون الجاحِظة ، فرُحتُ ابحثُ عن قميص اشتريناه معًـا أو سُترةٍ خلعتَـها لتـُدَثـِّرَني بها ذات سهرة لنا مع البحر... كان مساءً كريها ، ذعِرتْ عصافيرُ باب البحر و طارتْ بعيدا ، و الفتاةُ جالسة كما لو أنّها تواصِل غيبوبة ذهولها. ماذا تراها رأتْ لتكون أكثر حزنا من أن تبكي؟ فـمٌ أطبَقه الصّمتُ و عينان فارغتان كأنّما تنظران إلى شيء تراه وحدها ، حتّى أنّها لم تتنبَّه إلى ذراعها النّازف ، كانتْ تجلسُ و هي تضمُّ ركبتيها إلى صدرها، ربّما خوفا أو خجلا لأنّها تبوّلتْ و مازالت الآثارُ واضحة على ثيابها. ليتها علمَتْ بأيّة عبثيّة نجَتْ من بين فكـَّيْ الموت لتقع بين فكـّيْ الحياة ، فأنا لا أعلمُ بأيّة قوّة تركتُ الموتَ المترنِّم بلحن البقاء و رُحتُ أكتبُ عن الأحياء في رجفتهم الخرساء.



فجأة يُدوِّي رصاصٌ قريب ، تنتفِضُ الفتاةُ و تصرخ و تستغيث ثمّ تجري بعيدا و تختفي .. و يُظلِمُ الشارع .. و أشعرُ بالبرد ... كما لو أنّ قِطعة حادَّة من الثلج الصَّقيل تخترقُ ظهـ .. ري ... تـُحيط بي أرجُلٌ كثيرة ... وحدَهُ وجهُكَ ينحني إليَّ ... تتعانق عينانا و أسْـلِمُ رأسي إلى صدركَ الخافِق ... ها قد ... عا ... دَتْ ... العـ ... صافير ... "



..........................................................................................











بهذه المقاطع توقـّفَتْ صاحِبة الكلمات عن الكتابة. يبدو أنّ طلقا ناريًّـا جبانا أخرس قلمَها. ها هي ذي الكارثة ، فتفضَّـلْ أيُّها التونسيُّ المُثقَـل بغضبك ، تَرِكَة أخرى في انتظارك فماذا ستفعل باغتيال عاشِقة ضاق بها الوطن فترَكَتْ لكَ ما خالتـْه وطنًـا: مخطوطا في الحبّ و الموت مُغرورقا في حزن الفقدان ، وفاء أنثويّ يُـجهش اعتذارا عن كلّ خيانات البشر. بحثتُ في المخطوط عن اسم أستدِلُّ به أو عنوان أقصده فلم أظفر بدليل. وددتُ لو عرفتُ حبيبَها ، لو أنّ إصابتَها لا تكونُ قاتِلة ، لو أنّها تعودُ بحثا عن دفترها حيث أتلفتْه ، لكن لم يحدُثْ شيءٌ من ذلك. " الذين نحبُّهم ، نُهديهم مخطوطا لا كتابا ، حريقا لا رمادا ، نهديهم ما لا يُساويهم عندنا بأحد." هكذا كتبَتْ أحلام مستغانمي في إحدى رواياتها. و هكذا قرّرْتُ أن أنشُر المخطوط كما كتَبَتـْه صاحبتـُه المجهولة و أن أجعله إهداءً منها لشعب الثورة.



7 commentaires:

illusions a dit…

رائع هذا المخطوط و كاننا كلنا نحمل نفس هاجس الخوف من المجهول. ابحثي ولادة لعلّك بتجدين في الكلمات ما يطفئ العبرة الحارقة الخانقة الرّافضة للبوح

tunisien a dit…

بريق أمل أو عزاء في زمن "جديد" أخشى أن لا يكون أقلّ حلوكة من سابقه ذاك الّذي نحسبه أو نتمنّاه قديما... شكرا على الهديّة.

WALLADA a dit…

@ illusions

كلنا بحث يا صديقتي
دمت


تونسي

العفو و مرحبا بك

Anonyme a dit…

رائع
واصلي و أوصيك بالمثابرة
علي الأسواني

WALLADA a dit…

إلى المجهول الذي و كأنّي عرفته

أشكرك على تعهّدي

دمت

Anonyme a dit…

ايكما متيم بالآخر, انت ام احلام مستغانمي؟


أرتيكلي

WALLADA a dit…

آرت

و قبلها كنت و لا أزال متيّمة بالدوعاجي و محفوظ و علاء الأسواني و القائمة طويلة ... ما الفرد إلاّ تجارب متراكمة