mardi 31 mai 2011

لا يليق بالرّمال إلاّ الظلام

لله أنتَ يا دوعاجي، أعجبني منه هذا النصّ


ما كدنا نستقرُّ حتّى طلب صديقي من حَدَّة أن تنشدنا أغنية " الشّمعة " فتبسّمتْ كمن يبتسم لخاطرة أو ذكرى ، و كأنّما قد عادتْ الأغنية لذاكرتها بما حوْلها من أيّام شبابها و رُفقاء سفرها حين كانت صبيّة كاعِبا تشقُّ الصحراء تركب الخيل و المهاري و تحذق الصّيد. و كان منها إنشادٌ و منّا إنصات. و حضرَتْنا أحلامُ حدَّة بلسانها تُحدِّثنا عنها فتقول في رقّة و ترتيل : " كنّا نسيرُ في الصّحراء الواسعة و قد قرُبَ الغروبُ و أعيانا السّيرُ و أتعَبَ جِمالنا و ذهبَتْ حرارة ريح القِبْلي بما في أجسامنا من ماء و رطوبة ، فأنخنا رواحلنا. و ما فينا إلاّ فرِحٌ بهذه الرّاحة بعد أن أجهدْنا أنفسنا في السّير في الرّمال إلى حدّ المَلال. و كان يُظلّنا عن الرّيح الحارَّة عِرْق من رمل مرتفع. و لم نلبث أن اشتدّ علينا الظلامُ و لم يبقَ من النّور إلاّ بَصيصُ النّار تحت القِدْر. و بعد العَشاء أخذنا في طهي الشاي لغسل حلوقنا من الرّمال العالقة بها. ثمّ قام أحدُ رفقائنا إلى رحله فأخرجَ منه شمعة و وَدَّ أن نشربَ الشايَ على نورها. و كان القمرُ لا يطلع في تلك الليالي إلاّ متأخّرا. و ما كان أحْقَرَ نورَ تلك الشمعة الصّغيرة واقِفة كأصبع الجِنِيِّ في هذا الوادي الواسع. على أنّ نور الشموع كان أحَبَّ الأنوار إليَّ لأنَّ في رقصه بين النور و الظّلمة رقص الإنسان بين الحياة و الموت، و مع ذلك فقد طالبْتُ بإطفاء الشّمعة في تلك الليلة لا كَرْهًا لها ، بل ضَنًّا بنورها على هذه الصّحراء المُبغِضة إلى نفسي ، لكلّ ما عانيْتُ من السّير فيها عامّة يومي. و سألني رفيقي: ما يُبغضُ إليكِ نورَها فتحرمينا منها ؟ قلتُ : إنّها في غير مَحَلِّها إذ لا يَليقُ بهذه الرّمال إلاّ الظّلامُ. "              سهرتُ منه الليالي



فعلا، بعض العقول المتصحِّرة لا يَليق بها إلاّ الظلام

mercredi 25 mai 2011

إذا كان لي أن أعيدَ البداية

كثيرا ما راودني السؤال : ماذا لو كان لنا أن نعيد الثورة ؟

في ضوء كلّ الأحداث التي تتالت بإيقاع سريع و مذهل و مفاجِئ، منذ اندلاع الشرارة الأولى، غضبٌ شعبيّ في ذروة العفويّة و حَراكٌ هادِر لم يدَّعِ أحدٌ تنظيمه و توجيهه، وحدَه الإحساسُ بالقهر جمعنا و التمرّدُ على حاجز الصمت المغلوب وجّهنا ، و الرّيادةُ نَعتٌ. هل يمكن أن يفكّر في تلافي الأخطاء من يُقدِمُ على الفعل لأوّل مرّة ؟

لأوّل مرّة يُسَمِّي الشعبُ ناهِبَ ثروته و سارقَ يومه و غده و كاتِمَ حريّته
لأوّل مرّة يَطردُ المسؤولين الفاسدين فيُغادرون تِباعًا مكاتبَهم أذِلاّء
لأوّل مرّة تجرُؤُ الأمّهات على التظاهر في وجه من اعتقل منهنّ الأزواجَ و نكّل بالأبناء
لأوّل مرّة يعتصم الشبابُ في اختلاط و لا أروع فيفترشون إسفلت القصبة و بسمائها يلتحفون
لأوّل مرّة تـُـرفـَعُ الفتياتُ على الأعناق في المظاهرات
لأوّل مرّة تعتلي شابّة شبّاكَ مقرّ اتّحاد الشغل و تلهب حماسَ الجماهير
لأوّل مرّة يخرجُ الشعبُ متظاهِرا و الطاغية لم يُـنْـهِ خطابَه التّعيسَ بعدُ
لأوّل مرّة نقول : لا، مدوّيَة صارمة لكلّ الوعود المُسَكِّنة أو التهديدات السّافرة
لأوّل مرّة يُشتَمُ و يُعَنَّف المحامي و الفنّانُ و الأستاذ و الشيخُ و الفتاة و الطفلُ و العجوزُ و الصحفيُّ و الحقوقيُّ و حتّى الأجنبيّ ، و يهونُ ذلك من أجل الحريّة

ماذا عسايَ أتذكّر و ماذا أسجّل ؟ أحداثٌ كثيرة وقعتْ لأوّل مرّة و العالم يُصوِّرُ مبهوتا يكاد لا يُصدّق. فهل في روعة الفعل الأوّل ما يمكن أن يجعله يُعادُ ؟ و هل إذا أعيدَ سيكون أروعَ ممّا كان ؟
حين تزدحم هذه التساؤلات في ذهني ، تحضرني قصيدة لمحمود درويش

إذا كان لي أن أعيدَ البداية

إذا كان لي أن أعيدَ البداية، أختارُ ما اخترتُ:وردَ السّياج
أسافرُ ثانية في الدّروب التي قد تُؤدِّي إلى قرطبهْ
أعَلِّقُ ظِلِّي على صخرتيْن
لتبني الطيورُ عُشًّا على غصن ظِلّي
و أكْسِرُ ظِلّي لأتْـبَعَ رائحة اللّوز
 و هي تطيرُ على غيمة مُتْربهْ
و أتعَبُ عند السُّفوح : تعالوا إليَّ اسمعوني
كُلوا من رغيفي، اشربوا من نبيذي
و لا تترُكوني على شارع العُمْر وحدي كصفصافة مُتعَبَهْ
أحبُّ البلادَ التي لم يَطأها نشيدُ الرّحيل
و لم تمتثل لـدَمٍ و امرأه
أحبُّ النّساءَ اللواتي يُخبِّئنَ في الشهوات
انتحارَ الخيول على عَتَبَهْ
أعودُ، إذا كان لي أن أعودَ
إلى وردتي نفسها و إلى خطوتي نفسها
و لكنّني لا أعودُ إلى قرطبه

vendredi 20 mai 2011

إهداءٌ من مجهولـة



أهو الفضولُ ؟ أم حاجة إلى الكتابة ؟ أم .. قدَرٌ يجعل دائما كلَّ قصّة فرديّة موازية لقصّة جماعيّة ، لا ندري أيَّ واحدة منهما تكتب الأخرى. و إلاّ فما تفسيرُ تلك المفاجأة التي كانت تنتظرني بعد شهر من الثورة؟وإذا بي أنا التي لم يفارقني هاجس اللقاء في كلّ مكان ذهبتُ إليه،أعثر عليه حيث لم أتوقّع ، في كومة قمامة لم يرفعها أعوانُ التنظيف نكاية في رؤسائهم أو تماشيا مع الفوضى التي عقبتْ الثورة. كان مخطوطا التقطتُه قد لطّختْه الدّماءُ و آثارُ أقدام. أحِبُّ تلك الهدايا التي تقدّمها لكَ الحياةُ خارج المناسبات فتقلبُ بمصادفة حياتَك. حتّى تلك التي كهذه يرمي لك بها القدَرُ أرضًا فتنحني لالتقاطها ممتَـنًّا لأنّكَ تعثّرتَ دون قصد .. بالحبّ. و ماذا لو تكون قد تعثّرتَ بشيء آخر ؟ راحتْ قدماي تتقدّمان حيث لا أرى و نظري عالِق بالمخطوط.



.........................................................................................



" كـنّا قبل الثورة عاشقيْن في ضيافة الكلمات، رتّبَ لهما النّبيذ مقعدَ صدْقٍ فوق مدينة الصّمت. نسينا لبضعة أشهر أن نكون على حذر، ظنًّا منّا أنّ كأسًا متوهّجة و سنفونيّة تتسلّل في رفق إلى الرّوح كفيلان بحراسة العشّاق. إنّ حبًّا وُلِد في زمن الممنوع لا يمكن أن تحميه المتاريسُ المتاحة ضدّ زحف الحزن. أكنّا إذن نتمرّن على رقصة السّعادة أثناء اعتقادنا أنّ اللقاء فعلُ مقاومة ؟ أم أنّ بعض الشجن من لوازم العشّاق؟



التقيْنا ذات مساء من مساءات الثورة. كان همّي كيف أفكّكُ لغمَ الحبّ بعد أن تجشّأ الشارعُ ، كيف أنزع فتيلَ الشوق دون أن تصيبَني شظايا البوح. كنتُ أبحث عن كلمات مُتعذرة اللفظ كما العواطف المترفِّعة عن التعبير ، كما البلد العَصِيّ عن النّحيب رغم عدد الجثث و سواد الحريق. وددتُ لو استطعتُ البكاء ، لا لأنّنا معًا بعد غياب ، لا لأنّي لم أشْـفَ منكَ و أنّي تعيسة بدائي العضال ، لا لأنّنا ثرنا ، بل لجماليّة البكاء أمام حدث مُدهِش لن يتكرّر ، على الأقلّ خلال السنوات المتبقية في عمر كليْنا.



كنّا في غرفة الجلوس مُتقابليْن على مرمَى خيانة من جهاز التلفزة ، ذاتيْن أخرسَهما الذهولُ و الفرحُ و التوجّس، و المنضدةُ بيننا ترثي رحيقَ الموعد ، لا زجاجة و لا أكوابَ و لا حتّى قطعة جبن من زمن البُؤس. لا شيءَ على المنضدة سوى قلميْنا و بضع أوراق بيضاء. أمام زخم الأحداث كلّه خلال الثورة كان لا ينتابُني غير هاجس التفاصيل ن مُتربِّصة دوما بالكتابة، و كانت الكتابة بجواركَ طقسا قديما للبغاء المقدَّس، كنتُ أبحث عن لذة الوجع في فظّ القلم لبكارة الصفحة الأولى، يا للغباء! كان لابدّ أن أقرأ كلّ الذين راودوا تلك اللذة الزائفة. لا أذكرُ أنّي رأيتُكَ يوما تكتب، أكنتَ تخشى أن تتعرَّى أمامي؟ و هل كانتْ رواياتُكَ السابقة مُطارَحَة للفكرة على سرير اللغة بمنأى عن عين رقيب ترصد فعلَ العشق؟ لم أشاهدكَ إلاّ و أنتَ قارِئ. قلتُ لكَ يوما إنّ بيتَكَ يُشبه قاعةَ مطالعة في مكتبة عموميّة. كنتُ أعتبرُكَ كتابا جميلا بعثَرَ أشيائي منذ صفحة الإهداء، و خشيتُ الكارثة في نهايته. و كيف لا أخشى جمالا كان يلزمني عمرٌ من البشاعة لبلوغه.





رقصَتْ تونس في شتاء 2011 على إيقاع الرّصاص ة ثملتْ بأكواب مُترَعَة بالدّماء، كان رقصا غاضِبا صاخِبا أيقظ الأجوار، و كان يُذكِّرُني براقِصة إسبانيّة شاهدناها معًا ذات صيف، أتذكرُ ثوبَها الأحمر مكشوف الظهر و ذيله الطويل المسترسل إلى الأرض تحرّكه في براعة متناهية؟ كانتْ تعقدُ شالاً أسودَ على خصرها، و في شَعرها الأسود الكثيف تشبك وردة حمراء، ملامحُها جادّة صارمة و النّظرة حزينة. كان يلزمها ركحٌ من خشب خاصّ يصمد لكعب حذائها في حركات قدميها العصبيّتين. مَن يحضرْ يوما حفلا لفرقة فلامنكو فلن يجد النّومُ سبيلا إلى جفنيه و إنْ أضناه السّهر.



رقصَ البلدُ على هتاف الحناجر رقصة الموت و الحياة ، و كنتَ بعد كلّ رقصة تعود إلى البيت لتحترف البكاء. قرأتُ لصديقة تقول " كان يومُ 14 جانفي يوما جميلا للموت." ابْـكِ أيّها الشقيّ فالموت يُمازحُكَ مادام يُخطِئكَ كلّ مرّة ليُصيب غيرك ، ابْـكِ و أدخِلْ تعديلا على روزنامتك لتستدلّ على منعطفات عمرك، و اعتمِدْ على التراتب الزمنيّ لإفلاتكَ من الموت، و لا تـُلجِمْ نزعتك للأمل كما لجمتَ نزعتك إلى الغضب، أطلِقْ عنان السخرية من زمن كنتَ تسكت فيه على ضياع حقّ أو تجنّي امرأة أو خيانة صديق. "



...........................................................................................



لم يحْدُث للحبّ أن كان مُجاوِرا للموت إلى هذا الحدّ. أردتُ أن أتساءل كيف يحدث ذلك، لكنّ المخطوط سرق سؤالي و جدّف بي في قِبلة مفاجِئة.. فاستسلمتُ لاجتياح الكلمات.



.............................................................................................



" أدمنتُ شوارع العاصمة ، كان بابُ البحر يُغريني باللقاء ، ربّما لأنّ له مخزونا عاطفيّا في ذاكرتي منذ كنتُ أمرُّ به في مواسم الأعياد رفقة الأهل لنركب القطار الأبيض ، و كنتُ في سنوات الشباب أطيلُ الوقوف أمام مبنى المسرح البلدي و أحدِّثُ نفسي بأنّ بلدا به مثل هذا المبنى ، لا يمكن أن يجور عليه قبحٌ أو ظلم أو غباء. لكنّي بدأتُ أتوجّس ثقافة القبح يوم أبعدوا باعة الزّهور ، و أدركتُ أنّ سياسة الغباء رانَتْ حين أصبح عددُ المُخبرين يفوق عدد الحرفاء في المقاهي ، أمّا عندما اختنق الشارعُ بخيام بنفسجيّة لعرض إنجازات الانقلاب ، أيقنتُ أنّه عهد ظلم. كان بابُ البحر في إدراكي محرارا لحالة البلاد. أحسستُ يوم وصلتْ إليه الثورة أنّ السكّين ترك قطعة الزبدة و انغرستْ شفرتُه في كفـِّي. فرْقٌ كبيرٌ بين أن تتضامن مع مُتظاهِرين و أن تخرج مُتظاهِرا. رأيتـُكَ خلال الأيّام الدّامية للثورة ترصد ذبذبات الشارع تَدخله كما تَدخُل معتقلات الكآبة الجميلة ، كنتُ أدعوكَ لروعة الفِعل فتـُفلِتُ ذراعي لتستأنف حياةً بدأتَها في كتاب ، كأنّكَ موجود لاستئناف حياة الآخرين ، تُفاجِئكَ ألفة المكان ، تَدخُله كبطلٍ في رواية لتتأكّد أنّ الأشياء حقيقة أو لتتأكّد أنّكَ تعيش لحظة حقيقيّة و لستَ هنا لمواصلة التماهي مع أبطال وهميين. مَشاهِدُ توحي لكَ أنّكَ تعرفها و هي ليستْ كذلك ، لحظاتٌ تتوهّمُ أنّكَ عشتَها و هي ليستْ كذلك. فأيُّهما فيكَ الأكثرُ حزنا: القارِئ الذي انطلتْ عليه خدعة الرّواية؟ أم البطل الذي انطلتْ عليه خدعة المُؤلِّف؟ أهيَ مُعابَثَة للذاكرة؟ أم تَـذَاكٍ على الكتابة؟ أم .. حاجَتـُكَ أن تموت لأنّكَ مللتَ ذلّ البقاء؟







في زمن الهوَس المكتوب بالمجازر و بالمَشاهد البشعة ، مَن يُصدِّقُ النّوايا الحسنة لأديبٍ يُتيحُ له القلمُ حقَّ ملاحقة الحدث ببراءة إبداعيّة ؟ ليستْ أخلاق المروءة بل أخلاق الكتابة هي التي تجعل الكاتِب يُفضِّل على نجدة الضحيّة تدوينَ لحظة مأساتها. مَنْ كان يظنُّ أنّ هروبَ الطّاغية فصْلُ الختام فهو واهِم. ها هي ذي الجرائم أمامكَ على مدى البصر، أيّها الكاتِبُ ... قـُـمْ ، فاكتـُـبْ. "



.............................................................................................



في متعة القراءة كلمة عبور و شيفرة ذهنيّة تجعل من الشخص معبودَ ما يقرأ دون عِلمِه. و هذا المخطوط المُلوَّث المُهمَل ، مَنْ دَلـَّه على متعتي كي يسلك ممرّاتٍ سِريَّة للشجَن لم يَعبُرها مكتوبٌ قبله؟ سعدتُ باختراقه جدرانَ حيرتي و شعرتُ أنّي أطوِّقـُه كشَريكٍ في رقصة ، و أتسلـّلُ إلى عالمه الحميميّ. فجأة قرأتُ بفضولِ مَنْ وقع على سِـرّ.



.............................................................................................



" ثمّ رأيتـُـها ... أمام مقهى الكابيتول.

ماذا كانتْ تفعل هناك تلك الصبيَّة الجالسة وحيدة على رصيف الذهول؟ كان الجميعُ منشغِلين عنها بالرّكض في كلّ اتّجاه ، بضع مئات رفضوا الانسحاب من الشارع رغم الغاز الخانِق و الطلقات الناريّة ، كلُّ مَن تعثـَّر أو وهنتْ قدماه عن الرّكض أو اقترب كثيرا من حواجز رجال الشرطة وقع تحت وابل هراواتِهم قبل أن يُحشَر في إحدى سيّاراتهم. كانتْ عيناي تستجديانكَ بين الحشود ، لم تعُد الوجوهُ تساعِد على التمييز بعد أن اشترَكَتْ في الجراح و العيون الجاحِظة ، فرُحتُ ابحثُ عن قميص اشتريناه معًـا أو سُترةٍ خلعتَـها لتـُدَثـِّرَني بها ذات سهرة لنا مع البحر... كان مساءً كريها ، ذعِرتْ عصافيرُ باب البحر و طارتْ بعيدا ، و الفتاةُ جالسة كما لو أنّها تواصِل غيبوبة ذهولها. ماذا تراها رأتْ لتكون أكثر حزنا من أن تبكي؟ فـمٌ أطبَقه الصّمتُ و عينان فارغتان كأنّما تنظران إلى شيء تراه وحدها ، حتّى أنّها لم تتنبَّه إلى ذراعها النّازف ، كانتْ تجلسُ و هي تضمُّ ركبتيها إلى صدرها، ربّما خوفا أو خجلا لأنّها تبوّلتْ و مازالت الآثارُ واضحة على ثيابها. ليتها علمَتْ بأيّة عبثيّة نجَتْ من بين فكـَّيْ الموت لتقع بين فكـّيْ الحياة ، فأنا لا أعلمُ بأيّة قوّة تركتُ الموتَ المترنِّم بلحن البقاء و رُحتُ أكتبُ عن الأحياء في رجفتهم الخرساء.



فجأة يُدوِّي رصاصٌ قريب ، تنتفِضُ الفتاةُ و تصرخ و تستغيث ثمّ تجري بعيدا و تختفي .. و يُظلِمُ الشارع .. و أشعرُ بالبرد ... كما لو أنّ قِطعة حادَّة من الثلج الصَّقيل تخترقُ ظهـ .. ري ... تـُحيط بي أرجُلٌ كثيرة ... وحدَهُ وجهُكَ ينحني إليَّ ... تتعانق عينانا و أسْـلِمُ رأسي إلى صدركَ الخافِق ... ها قد ... عا ... دَتْ ... العـ ... صافير ... "



..........................................................................................











بهذه المقاطع توقـّفَتْ صاحِبة الكلمات عن الكتابة. يبدو أنّ طلقا ناريًّـا جبانا أخرس قلمَها. ها هي ذي الكارثة ، فتفضَّـلْ أيُّها التونسيُّ المُثقَـل بغضبك ، تَرِكَة أخرى في انتظارك فماذا ستفعل باغتيال عاشِقة ضاق بها الوطن فترَكَتْ لكَ ما خالتـْه وطنًـا: مخطوطا في الحبّ و الموت مُغرورقا في حزن الفقدان ، وفاء أنثويّ يُـجهش اعتذارا عن كلّ خيانات البشر. بحثتُ في المخطوط عن اسم أستدِلُّ به أو عنوان أقصده فلم أظفر بدليل. وددتُ لو عرفتُ حبيبَها ، لو أنّ إصابتَها لا تكونُ قاتِلة ، لو أنّها تعودُ بحثا عن دفترها حيث أتلفتْه ، لكن لم يحدُثْ شيءٌ من ذلك. " الذين نحبُّهم ، نُهديهم مخطوطا لا كتابا ، حريقا لا رمادا ، نهديهم ما لا يُساويهم عندنا بأحد." هكذا كتبَتْ أحلام مستغانمي في إحدى رواياتها. و هكذا قرّرْتُ أن أنشُر المخطوط كما كتَبَتـْه صاحبتـُه المجهولة و أن أجعله إهداءً منها لشعب الثورة.



jeudi 19 mai 2011

قالوا: إن هي إلاّ فزّاعة

من الغباء مواصلة التساؤل " من وراء ما يحدث؟ " و من الضحك على الذقون الحديث عن " فزّاعة الإسلاميين " و محاولة تبرئتهم و التصدّي لكلّ تحليل يُورّطهم بدعوى التوظيف السّياسي ... البعض يضع الانتخابات حصان طروادة و يتّهم كلّ من يطرح قضيّة الأمن الداخلي أو الحدودي بأنّه يضرّ بتوجّهات الثورة      و يسعى لصرف الانتباه عن ممارسات الإسلاميين ... أمّا الموقف الأكثر مغالطة و زيفا فهو بلاغات الاستنكار للإرهاب الحاصل على الحدود. أما آن لبعضهم أن يفهم أنّ اللعبة انكشفت و أنّ مواقفهم و انتماءاتهم باتت مفضوحة و أنّ توظيف الإسلام السياسي و معاضدته بالعنف و الترويع خطرٌ من جنس الخطر الذي كانت تعيشه البلاد في عهد المخلوع ؟
فليذكروا لي بلدا واحدا ، واحدا فقط نجح فيه الدّين نظاما للدّولة و تحقّق الاستقرار السياسي و الاجتماعي و توقّف الإرهاب. 
بعض البلدان دخلت دوّامة العنف الأخطبوطي و انكشف فيها الوجه الحقيقي للتنظيمات الإسلاميّة و صار خطابُها الإرهابيّ علنيّا ، أمّا في بلادنا فلا يزال الخطاب ازدواجيّا يُعلن غير ما يُضمر ، يُداعبُ مشاعر الشعب مرّة و يتمسّح بالسلطة مرّة أخرى، يُدين الجيش ثمّ يُدين الإرهاب... في انتظار الانتخابات
لكِ الله يا تونس في مخاضك     

lundi 14 mars 2011

يا تاكسي الثورة يا مفـدّد الحريف

اليوم الصباح وقفت أكثر من ساعة نستنّى في تاكسي رغم الّي كانو ثلاثة و إلاّ أربعة تاكسيات واقفين فارغين ، صباح الاثنين التاكسيات صعيبة ، تفوت السّبعة تولّي البوسة فيهم بشريف و جيراني التاكسيستيّه في الحومة ، إلّي يهزّ كورسة الصّباح بكري ماعادش يرجع و معضمهم ركبت معاهم ، لكن اليوم وقفت نستنّى في تاكسي ما نعرفش مولاها و هوما قاعدين في كراهبهم يبحلقو لي و باهتين في عجب ربّي . في الحقيقة قرّرت ما عادش نركب معاهم و كلّ واحد على سبب
إلّي يحلّ الرّاديو على علو صوته و أنا نصبح مفولغة ما نحملش كلمتين خوات
و الّي حالل فوق الفولون جريدة من جرايد بودورو ، عين فيها و عين عالكيّاس و أنا نتقوفز و نقول يا ربّي تستر لا يدخل في كرهبة و إلاّ في مترجّل يرزيه في عمره و نصبحو في حلّ و اربط ، و ساعات ياقف في الضوّ و يغطس في القراية ما يتحلحز كان ما ياكلنا التزمير و السبّان ، و ساعة ساعة يدمغني بخبر بصوت عالي كيفلّي قتله أقرالي
و الّي قال لي : و الله كان قعد الزّين خير عالاقلّ كان يسرق عيني عينك و أحنا ناكلو معاه في خبيزة و كنّا لاباس
و الّي ياكل في روحه و يفرك وحده قال شنوّة ليلى خاطيها الكلّ مالزّين . بشوم رايي العادم قتله : " كيفاش الكلّ مالزّين ؟ و ليلى و الطرابلسيّة خاطيهم ؟ " قلّي سكّر ملطومك آش مدخّلك ، الرّاجل كاينّه مسّه التريسيتي ، هاج و بدا يعيّط " أي نعم الكلّ منّه هو الرّاجل و الرّجال قوّامون على النّساء ، كان كسّر لها ضلعة مالنّهار الأوّل راهو ما وصلش لها المواصل . "  تخيّلو رئيس يكسّر ضلعة لمرته ، و إلاّ زوجة رئيس تحضر مؤتمر و هي تِكوَع  عينها زرقة و يدها في عنقها و كي يقولو لها نساء الرّؤساء " ماو لاباس ؟ " تجاوبهم : "لا حتّى شيء ، راجلي البارح عطاني طريحة و برّا "
و الّي كيف ركبت لقيته يسمع في برنامج على المعتصمين في القصبة ، علّق و قال : " مشيت هاك النّهار نعمل في طلّة عالقصبة ، نسخايل باش نلقى ناس بقداهم كساوي و كرافاتات ، لقيتهم خَلايِق ، بالرّسمي ناس فارشة في القاعة و هيّتهم درا كيفاش ، توّا هاذوكم يفهمو في السياسة ؟ " قتله : " يا خويا هبّطني أنا بحذا هاك الخَلاَيِق و برّا ربّي يواجهك خير . " و لازمة هاك الجملة في قلبي هههه من نوع : ابزق على خلقتي كان مازلت نركب معاك

...

وقفت مديدة و أنا نستعرض في الغرايب و مّالي التاكسيات متعدّين قدّامي بعد ما ركّبو حرفاء - و كلّ حدّ يلقى قسمه - أنا هكّاكة و تاكسي فارغة جاية تطّلفح وقفتها و ركبت ، نلقى مولاها كشاكشه طالعة و هو يسبّ في الثورة منين هبّت و دبّت " يا ولدي ماو لاباس ؟ كي سِبّتك ؟ " قال لي : " قبلك أنت ركّبت واحد جهامة قدّ السّخط لحيته تكتّف بهيم و معاه لملومة غاطسة في لكحل . بعد ما وصّلته لوين يحبّ قال لي الكونتور مَرْكَى برشة و أنت سرقتني و أحنا عملنا هالثورة باش الزوّالي يعيش أما انتوما جماعة التاكسيات تحبّو تركبو عالثورة ... " و برشة تخلويض آخر . ما عرفتش نضحك و إلاّ نفدّ ، تلفتّ للتاكسيست و قتله : إندَه يا خويا انده ، ربّي معاك و يتولّى هالثورة برحمته

dimanche 13 mars 2011

اعتــرافات في الثــورة

وقت الّي بدات الثورة هجرنا الاحباب ، بعدنا و احنا قراب ، نسينا كلام الحبّ ، تبدّلنا ، بردنا و بردت رغايبنا و ماعادش نقعدو متقابلين عاشق و معشوق في عينين بعضهم هايمين ، ولّينا الاثنين متجانبين نستنّاو في اخبار الشارع و على البلاد خايفين

قبل الثورة ، ما كان حتّى واحد يملك الحقّ إنّه يناقش سلوك لاخر: وين مشى ، شكون كلّم ، آش قال ، شنوّة نوع الغنا الّي يسمع ، آش كتب ، و علاش ما كتبش و شنوّه الّي يضحّك فيه ... في الثورة ، فمّة ثالث دخل بين الحبيب و محبوبه و حتّى بين الصاحب و صاحبه و بين الخو و خوه و بين البو و ولده ، حاجة ثالثة نبتت و زرّقت و نوّرت ، تغذّات بدموعنا و نضجت بأحلامنا ، حاجة ثالثة دخلت بيناتنا لا شاورت لا ناورت ، تربّعت على عرش محبّتنا: تونس . الغريب إنّا ما حسّيناهاش تشبّه للعذول العادي الّي يدخل بين ثنين متحابّين و لا حشمنا نعرّيو قلوبنا و عقولنا قدّامها .. حبّينا بعضنا فيها ، و لمنا بعضنا عليها ، و تخاصمنا و تسامحنا و شكّينا و بكينا و رضينا و خفنا و فرحنا و حزنّا و قلقنا و تغشّشنا و فدّينا و تغرّبنا و لوّجنا على غيبة في سكرة ما لقينا

في الثورة ، شفت برشة صداقات تبعثت ، و برشة صداقات أخرى كلاها الحافر على كلمة ، على فكرة و ساعات على نغمة ... فمّة الّي قال : " إلّي مازال يبعثلي غناية ننحّيه  " و نحّاه .. أنا نفسي عملت الشيء هذا ، و من بعد رجعنا الكلّ ننشرو في الغنا ، صحيح تصرّفنا كان فيه نوع مالإقصاء و التنرفيز و ردّ الفعل الوقتي المتسرّع ، لكن تونس و الثورة و الظرف و دمايات الشهداء حبّو هكّة ، و حبّ تونس جبّار
في الثورة ، كان الّي يسمع غناية خاصّة موش ملتزمة يرى نفسه خاين مايع قلبه بارد ، و الّي تجي فيه ضربة ماتراك و إلاّ تهبط تصويرته في مظاهرة  يرى روحه خذا حظّه مالبطولة ، و الّي يكتب نصّ و إلاّ ينشر خبر يبات و ضميره راضي ، أما الّي يتوقّف  و يطوّل شويّة في الإيقاف يحقّ له تبارك له الاصحاب

في الثورة ، تمحات المسافات ، من طرف الكرة الأرضيّة لحرفها ولّينا نسهرو جميع ،ما عادش مهمّ شكون عنده ليل و شكون عنده نهار، حاجة وحدة كانت تجمعنا : شاشة الحاسوب و أخبار البلاد  في الثورة ، كلّ ليلة نسألو بعضنا : عندكم كرتوش ؟ جاتكم هليكبتر الجيش ؟ و نسهرو نطمّنو في بعضنا و الّي بايت في دار وحده نونّسوه بالحديث حتّى يتعدّى الليل
في الثورة ، ما حشمتش من صحابي كيف قلت لهم ليلة : أنا خايفة
في الثورة ، حسّيت الّي عندي برشة أخوة و بنات و ولاد مفرّتين في البلاد و خايفة لا البوليس يشدّهم و يضربهم ، و كيف يظهرو على الفايسبوك في الليل قلبي يطمان عليهم ، و ساعات نعاركهم و نوصّيهم باش ما يخرجوش من غدوة و أنا ناسية الّي الثورة بيّ و بيهم و بغيرنا لكن قلبي المشوم يخاف عليهم و ما يرضاش دقّة الشوكة فيهم

في الثورة ، تغيّرت ههه أي نعم تغيّرت ، ولّيت نسمع أكثر و نحبّ أكثر و نتسامح أكثر

فصيلة وحدة من البشر لا نسمعهم لا نحبّهم و لا نتسامح معاهم هوما سُرّاق الثورة و بوكشطة  

vendredi 4 mars 2011

على قدر أهل "الحَزْمِ" تأتي المصائِبُ

على قدر أهل "الحَزْمِ" تأتي المصائبُ   و تأتي على قدر الاعتصام العزائمُ
و تعظمُ في عين الخسيس صغارُها       و تصغرُ في عين العظيم العظائمُ
يُكلِّفُ بلدُ الجُرْح الدّائم الشعبَ هِمَّة       و قد عجزتْ عنها الشعوبُ الضّغارِمُ
و ما ضَرَّها خَلقٌ بغير مَخالِبٍ             و قد ضَرَّهُ دهرٌ من الظُلم جاثِمُ
و في كلّ شِبر ساحة حمراءُ تعرف       لونَه ، و تعرف أيَّ الساقِيَيْن الغمائِمُ
سقاها غمامُ البطش عِقدًا و نَيِّفـًا           فلمّا تجَبَّرَ فيها سَقـتْها الجماجِمُ
و ماجَ الذي كان يُرْمَى بكلّ ميوعةٍ      و موجُ المنايا حوله مُتلاطِمُ 
و كان به مثل الذهول فأصبحَتْ          و مِنْ نَثْرِ الدّماء عليه مياسمُ 
إذا كان ما ينويه فِعلا مُضارِعًا            مَضَى قبل أن تُلقَى عليه الجَوازِمُ
و قد طردوا السفَّاحَ و اللّيالي حَواكِمُ      فما ماتَ مظلومٌ و لا عاش ظالِمُ
أتَوْهُ يَجُرُّون الهديرَ كأنّما                  سَـرَوْا بجِيَادٍ ما لهنَّ قوائِمُ 
يومٌ بشَرْقِ الأرض و الغَرْبِ زحْفُهُ       و في أذُن الجوزاء منه زَمازِمُ
تجمَّعَ فيه كلُّ حُرٍّ و حُرَّةٍ                   بوجه الطُّغاة و الدّهرُ راغِمُ 
فللّهِ شعْبٌ ذوَّبَ الغِشَّ عَزْمُكَ             فبَانَ منكَ صَدُوقٌ و بانَ العادِمُ 
وقفتَ و ما في الموت شكٌّ لواقِفٍ        كأنّكَ في جَفن الرَّدَى و هو نائِمُ
تَمُرُّ بكَ الأزلامُ بكلّ مُدَجَّـجٍ              و وجهُكَ وَضَّاحٌ و ثغرُكَ باسِمُ
ضمَمْتَ جناحَيْكَ على الموت ضَمَّةً    تـُدَقُّ ضلوعُ الجُبْن تحتها و القوائِمُ
بضَرْبٍ أتَى الهاماتِ و النّصرُ قادِمٌ   و سارَ إلى الأجوار و النّصرُ قادِمُ
تجاوزتَ مقدارَ الشجاعة كلَّه          إلى قوْلِ قوْمٍ : تونِسُ العُرْبِ هَا كُمُ
أفي كلّ يومٍ ينهضُ الشعبُ ثائِرًا      فيندحِرُ الطّاغوتُ و الغَرْبُ واجِمُ؟
لكَ الحَمْدُ في الدُرِّ الذي لِيَ لفظُهُ     فإنّــكَ مُعطِيـــهِ و إنِّـيَ ناظِـــــمُ 

mardi 15 février 2011

نريدّ ثـقـــة

تغلب على المرحلة الراهنة حربُ معلومات في اعتقادي لأسباب ثلاثة يبدو أحدُها أو جميعُها مباشِرَ التأثير ، فإمّا لهشاشة إعلامنا  و قلّة حرفيّته ممّا يجعله يستقي الخبر من غير مصدره فيتردّى عمله في التخمين و الانطباعيّة و ما ينجرّ عن ذلك من تصحيح   و اعتذار الأمر الذي يُطيح بمصداقيّة أيّ جهاز إعلامي ، و إمّا لتورّط إعلامنا الذي و إن غيّر اللون فقد تابع التلوّن و لم يغيّر الولاء ، و إمّا لأنّ شعبنا كسائر شعوب الضفّة الجنوبيّة للمتوسّط يتعاطى الإشاعة كما النومَ الغذاء
يعيش المواطن التونسي مؤخّرا على وقع الخبر و الخبر المضادّ البلاغ المزيّف و البلاغ المكذِّب ، الحدث المنسوب لطرفٍ و هو من صنع طرف آخر ، التضارب الصّارخ بين التصريح و الممارسة ... ثمّ ماذا بعد ؟ ظرفٌ من الضبابيّة غير مسبوق و حالة من التوقّع و التوجّس يأتي خلالها البعضُ أفعالا خاطفة مُعلَنَة مكشوفة النوايا سواء كانت من قِبَل بقايا الحزب الحاكم سابقا أو من بعض الأقليّات الإسلاميّة أو من أحزاب المعارضة . و لو أنّ مصطلح معارضة بات مؤخّرا لا يعني الكثير فحزبٌ يقبل حقيبة وزاريّة في حكومة تصريف الأعمال لستُ أدري صراحة مَنْ يعارِضُ بعدُ
فكرة أخيرة أختم بها و أمضي ، في خضمّ الفوضى و أيّام الرّعب وقلّة الثقة في أعوان الدولة التي شهدتها البلاد منذ اندلاع الثورة، تعلّقت أنظار الملايين و قلوبهم بشخص السيّد وزير الداخليّة و من قبله بشخص الفريق رشيد عمّارمع احترامي الشديد للرّجليْن، لا لوْمَ ، فقد كان هذا ضروريّا في مرحلة حكمها الخوفُ في شعب لم يتعوّد نقصا في " بيضة البريكة " فما بالك بصوت الرصاص الحيّ و رائحة الغاز و مشهد الدماء و أخبار مروّعة عن قنّاصين و مليشيات محترفة .. و لكن ، ألسنا هكذا نعود إلى ثقافة الرّجل الواحد المنقذ المُخلِّص ؟ أليس هذا ما أهلكنا و أردانا في العهد السابق ؟ أليس هذا ما برّر به بن علي في إحدى خطبه الأخيرة البائسة حين قال  :" لستُ شمسا لأشرق على الجميع."  فهل من المفروض أن يكون المسؤول الأعلى على رأس كلّ وزارة هو الضامن المُصلِح و النّزيه الوحيد ، الأكفأ و الأكثر إخلاصا ؟ أين مصالح وزارته و مديروه المركزيّون و الفرعيّون و الجهويّون   و موظّفوه و إدارات التصوّر و التنفيذ و المتابعة و المحاسبة ؟ إن كان سيتصرّف في شؤون الدولة بضعة أشخاص في كلّ وزارة يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة ، إذن فما جدوى ميزانيّات الوزارات و المرتّبات و الحوافز و السيّارات الإداريّة              و التسهيلات و العُطَل مدفوعة الأجر و التأمين على المرض      و الأسفار في مهمّات على حساب المال العامّ ؟
        
   ستُقدِم البلاد بعد أشهر قليلة على منعرج حاسم في تاريخها الحديث فإمّا انتخابات حقيقيّة و إمّا مسرحيّة ممجوجة كسابقاتها 

dimanche 13 février 2011

أما آن لمولود الثورة أن يغادر الحاضِنة ؟

من الطبيعي أن يسيل حبر كثير حول ثورة الكرامة في تونس فما حدث لا يحدث كلّ يوم ، بل لعلّنا مقصِّرون فيما كتبنا أو لعلّ الثورة باغتتنا فاندلعت خاطفة مفاجئة و لم تنتظر تأطيرا و لا تنظيرا و لا حتّى توقّعا أو تبشيرا. جميلٌ أن نكتب عن الثورة أسبابا و ملابسات و مظاهر و أهدافا و نتائج ، و ضروريّ أن نكتب عنها و لها ، للذاكرة و للأجيال و التاريخ. و لكن .. ماذا نكتب ؟ إن كنّا سنكتب بعدُ تمجيدا ، فرُتبتها بين ثورات العرب في عصرهم الحديث تكفيها تألّقا و إبداعا ، و صغر البلد و قلّة عدد هذا الشعب المحكوم بنظام بوليسيّ عتيّ هو ما أحدث المفارقة

نعم حدثت ثورة في تونس بكلّ مقاييس الثورات و لكن عبثا نقارنها بأخرى تاريخيّا و لا جغرافيّا . و لا أكتم أنّي شعرتُ بشيء من الغيرة و الإحباط و أنا أشاهد الثوّار المصريين يطيحون برئيسهم و نائبه و يتمّ حلّ مجلسي الشعب و الشورى و البدء في التخلّي عن الدستور في يوم واحد - هي غيرة على بلدي و ليست حسدا لشعب صديق عانى ما عانيناه - غير أنّي حين رأيت الجيش يتسلّم السلطة في مصر، فضّلتُ فوضانا و ما نحن فيه من ضبابيّة الرّؤية ، و ما الثورة إن لم تكن قطعا مع كلّ ما قبلها من نظام     و ترتيب و سطور خطّها العجائز و فرضوها فرضا على الشباب

صحيح أنّ في التاريخ ثورات كانت ممنهجة مسبَقة الإعداد التفّت حول إيديولوجيا معيّنة أو شخصيّة عامّة ذات كاريزما عالية وجّهت تحرّكات الشارع و و سيطرت على وسائل الإعلام و موارد الدولة ... بل إنّ بعض الثورات استبدّت و نكّلت بمعارضيها في داخلها .. و الأمثلة عديدة ، و لكلّ شعب خصوصيّاته و لكلّ بلد ملابساته فالمقارنة ضرب من العبث

اليوم مرّ شهرٌ على فرار الرّئيس السابق و لا أقول على سقوط النّظام. مساء 14 جانفي 2011 كان رهيبا سكتت فيه عصافير باب البحر و نابت عنها حناجر هادرة هتفت بالحريّة و الكرامة         و سقوط الطغيان في كلّ شبر من تراب الوطن، فهل حقّقنا كلّ ما هتفنا به ؟ تعالت أصواتٌ بعضُها منّا تطالبُ بترك المؤقّتين يعملون و مساعدتهم بالتفهّم ، و امتثلنا . من حقّنا بعد شهر أن نطرح عديد التساؤلات : هل نجحت ثورتنا كما أردناها ؟
هل يكفي هروب رئيس و مصادرة بعض الأملاك و تغيير وزير بآخر كي نقول إنّ الثورة بلغت أهدافها ؟
لماذا نسمع اليوم أصواتا كانت غائبة في الثورة ؟
لماذا إلى اليوم لم يجرؤ أحدٌ من هؤلاء أن يتبنّى الثورة علنا ؟ بل إذا أعيته أساليب المراوغة نسبها إلى الشباب و كلّنا يعلم أنّها لم تكن ثورة شباب فقط فالشعب هبّ بكلّ فئاته العمريّة شيبا و شبابا ، رجالا و نساء ، موظّفين و عمّالا و طلبة و عاطلين
لماذا لا يواكب إعلامُنا خطى الثورة و يكتفي بتحريك البعض ضدّ الآخر في اتّجاه مكشوف؟
لماذا تكتَم الأصواتُ إذا بدأ الحديث عن مجلس تأسيسي أو مجلس قيادة الثورة أو حمايتها .. سمِّه ما شئت ، و هل مثل هذا المجلس قادر على استيعاب ائتلاف  لكلّ الأطياف السياسيّة دون أن يراود أحدَها حلمُ الوصاية على الثورة ؟
لماذا يُعتبَر الحديث عن محكمة دستوريّة من قبيل المسكوت عنه ؟
ماذا يجري في أروقة الوزارات و المؤسّسات و في إدارات أرشيفها ؟
صحيح أنّنا شعب متعطّش للتعبير السياسي و لكن قرابة العشرين حزبا دون احتساب القائمات المستقلّة و العدد قابل للارتفاع إلى حين تحديد موعد الانتخابات ، أمرٌ فيه ما فيه
...
و تساؤلات أخرى كثيرة .. و لكن ، هل الظرف ظرف كتابة أم فعل ميداني ؟ أم أنّ أحدهما لا يُلغي الآخر ؟
المرحلة حاسمة و كلّ لحظة ذهول تمرّ بنا تقرّبنا من الجمود فلنفكّر و لنكتب و لنلتقي و نتحاور سواء اتّفقنا أو اختلفنا المهمّ أن نتفاعل و نتلاقح ، من أجل تونس و أجيالها القادمة ، من أجل ألاّ يأتي مولود الثورة مشوّها معيبا منقوصا

mercredi 2 février 2011

ربيع في الشتاء

منذ ما يزيد عن السنة كنّا و بعض الأصدقاء منشغلين بمصير أمّة العرب - تاريخا و حضارة و لغة و أرضا و هويّة و ثقافة - تجاه كلّ المتغيّرات العالميّة ، و كان قلقنا شديدا إزاء قدرتها على الوقوف في وجه التيّار و التنفس في مناخ النظام العالمي الجديد . كان البعض يتنبّأ بانقراضها و يتمسّك البعض الآخر بأمجاد الجدود و يرتئي شقٌّ ثالث ضرورة انخراطها في المنظومات الجديدة ضمانا لاستمرارها و إن بوجه مختلف ، و لا يُخفي فريق رابع قلقه من احتمال تردّيها في الرجعيّة ... ثمّ تنهض من رماد القمع بلادٌ مشرئبّة بقامتها إلى المتوسّط صغيرة مساحتها فتلوّن شتاءَ 2011 بلون الثورة و تسحب رداءَها القاني على بلدان المنطقة فتهبّ شعوب لتعانق الحريّة و تميد الأنظمة الكرتونيّة تحت أحذية الشباب . و إذا بمصطلحات الخوف و الرّضى و الغباء و الميوعة .. تؤوب إلى قواميسها و تندثر من الشارع العربي . إنّه شتاء الثورات بلا منازع ، و إنّها أمم تتجدّد و تستعيد ربيعها في عزّ الشتاء فلا تخذلوها يا زهور ربيعها