mercredi 26 mai 2010

رحلوا في صمت 1 : خليل حاوي .. شاعر المنفى الحزين

    بيروت 1919 - 1982
درس في المدارس المحلية حتى سن الثانية عشرة حين مرض والده فاضطر إلى
احتراف مهنة البناء ورصف الطرق، وخلال فترة عمله عاملاً للبناء والرصف كان كثير القراءة والكتابة ونَظَم الشعر الموزون والحرّ بالفصحى والعامية.

علَّم حاوي نفسه اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية حتى تمكن من دخول المدرسة ثم الجامعة الأمريكية في بيروت التي تخرج منها بتفوق مكنه من الحصول على منحة للالتحاق بجامعة كامبردج البريطانية فنال منها شهادة الدكتوراه. وعاد بعدها إلى لبنان ليعمل أستاذا في الجامعة التي تخرج فيها واستمر في هذا العمل حتى وفاته.

منذ بداياته بدا شعر خليل حاوي وكأنه قد (أدخل رعشة جديدة على الشعر)العربي، كما قال فكتور هيغو عن شعر بودلير.

فقد ابتعد حاوي عن ارتياد الموضوعات الوصفية والمعاني والصور المستهلكة في شعره واستضاء دربه الشعري بثقافته الفلسفية والأدبية والنقدية وجعل النفس والكون والطبيعة والحياة موضوعَ شعره.



كانت الرموز قوام شعره ، وهي رموز حسية ونفسية وأسطورية وثقافية. كما عرف شعره الرموز المشهدية التي ضمت في قلبها رموزًا متعددة ومتوالدة. ومع دخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت لم يتحمل الشاعر خليل حاوي ما رآه فأطلق النار على راسه في منزله في شارع الحمرا في بيروت فتوفي منتحراً.

نشرت سيرته الذاتية بعنوان رسائل الحب والحياة وذلك بعام 1987.

 من دواوينه

نهر الرماد عام1987

الناي والريح عام 1961

بيادر الجوع عام 1965

ديوان خليل حاوي عام 1972

الرعد الجريح عام 1979

من جحيم الكوميديا عام 1979

ما زال انتحار الشاعر خليل حاوي غداة الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 سراً يتوّج حياته وشعره في آن واحد. قيل الكثير عن هذا الانتحار وأعاده بعضهم الى الهزيمة العربية الجديدة بُعيد الاجتياح، لكنّه لا يزال عصياً على التفسير وغامضاً أو ملغزاً. وما يزيد من غموضه أن الشاعر حاول الانتحار مرتين أو ثلاثاً في سنواته الأخيرة وفشل. وكان في تلك السنوات وحيداً جداً، خائباً خيبات عدة، شخصية وقومية، متوتراً ومتألماً لأسباب شبه مجهولة. وكان بدأ يلمح طيف الشيخوخة يلوح في الأفق المغلق، مهدداً إياه، هو الشاعر النبيل والمترفّع.

قد يُظلم خليل حاوي إن فُسّر انتحاره تفسيراً سياسياً وقومياً فقط. الخيبة السياسية سبب ضئيل من أسباب أخرى تراكمت حتى أغلقت كلّ المنافذ في وجهه. وجاء الاجتياح ذريعة أخيرة لينهي شاعر «نهر الرماد» حياته. خرج الى الشرفة وأطلق النار على نفسه. طبعاً لم يكن خليل حاوي قادراً على أن يبصر جيش العدو «يختال» في شوارع بيروت. كانت تلك اللحظة بمثابة الشرارة التي ألهبت النار في تلك الروح المهيضة.

كتبت القاصة العراقية ديزي الأمير التي كانت حبيبة خليل حاوي خلال سنوات، إنه كان يعاني مرض «الصرع». بعض الأهل والأقارب كانوا يقولون إن ورماً في الرأس كان يوقعه في حالات من التوتر والألم، وكان من الصعب إزالته بجراحة. مثل هذه الأقاويل لم تكن إشاعات مع أن الشاعر العزيز النفس لم يكن يبوح بها لأحد مؤثراً مواجهة المرض وحيداً ومكابراً. لكنّ قصائده القصيرة التي كتبها قبيل سنة أو سنتين من رحيله المأسويّ تشهد على ما كان يلمّ به من أزمات نفسية وقلق وأرق وكآبة وخيبة… وأولى تلك الأزمات تمثلت في عجزه عن الكتابة وكأنه كان يشعر في طويته ان الشعر خانه واللغة خانته: «فاتني الإفصاح/ أدركت محاله…» يقول. أزمة الورقة «البيضاء» التي آلمت كثيراً شاعراً فرنسياً هو ستيفان مالارمي عاشها خليل حاوي في أيامه الأخيرة، هو الذي كان شديد الإعجاب بهذا الشاعر ودرّس في الجامعة نظريته «الخلق من عدم». وحلّت هذه الأزمة في مرحلة مأزومة من حياته. فالشاعر الذي أضحى سريره «من إبر» كما يقول، بات «يبلو طوال الأمسيات السود/ صمتاً يتلوّى، صرعة تطول». يا لهذه الليالي التي عاشها خليل حاوي وحيداً، مهيضاً، خائباً، صامتاً… حتى صراخه أصبح كتوماً، أخرس، لا يسمعه أحد، لا من قريب ولا من بعيد: «طال صمتي/ مَن تُرى يسمع صوتاً صارخاً/ في صمته/ يسمع صوتي؟»، يقول أيضاً في إحدى القصائد الأخيرة. وكان من الطبيعي أن يهجس الشاعر بالانتحار، في غمرة هذه المأساة المتعددة الوجوه، مأساة الجسد والروح، مأساة الشعر والوجود، مأساة الحياة والقدر… لم يبق لدى الشاعر ما يحلم به، لم يبق من أمل ولو ضئيل. خانته المبادئ العليا، خانته العروبة وخانه الشعر وخانه الوطن والجسد والروح. ولم يبق أمامه إلا ليقول: «فلأمت غير شهيد/ مفصحاً عن غصّة الإفصاح/ في قطع الوريد…». كم تعبّر هذه الأسطر الشعرية عن مأسوية الحال التي بلغها الشاعر، ذلك «السندباد» الذي خذله العبث والعدم بعد جولته الطويلة في ليل النفس والوجود. الشاعر التموزي خذلته أيضاً «شمس الحصيد» وحطمت الريح نايه الحزين. وها هو «العازر» يرفض الحياة والقيامة ويسقط في قبره يائساً وموحشاً: «عمّق الحفرة يا حفار…».

في الذكرى الثامنة والعشرين لرحيل خليل حاوي لا بد من طرح سؤال ملحّ: ماذا بقي من شاعر «نهر الرماد»؟ هذا السؤال طُرح كثيراً من قبل وكانت بعض الأجوبة عليه قاسية. الشعراء العرب الشباب نادراً ما يقرأون خليل حاوي، بل إن بعضاً من هؤلاء يعتبرون أنّه دخل «متحف» الحداثة والعروبة منذ أن انطوت «صفحة» القومية العربية وغدت نتفاً من الذكريات. شعراء آخرون ينتقدون مشروعه الشعري «الحضاري» الذي طالما ناءت به قصائده، حتى أمست قصائد أفكار ومواقف لا علاقة لها بالحياة والذات الانسانية. ويأخذ شعراء «تفعيليون» على شعر خليل حاوي رتابته الايقاعية وثقله الموسيقي وخلوه من الرقة والغنائية… هذه آراء يصعب تجاهلها اليوم خصوصاً بعدما أصبح حاوي بلا مريدين ولا تلامذة وبعد أن يكاد أثره يختفي من المعترك الشعري الراهن. أضحى حاوي حاضراً في أذهان فئة من النقاد الأكاديميين، وبعضهم درسوا عليه جامعياً، أكثر من حضوره في وجدان الشعراء الشباب.

لكن انحسار ظلّ خليل حاوي شاعراً قد لا يكون مأخذاً عليه، فهو واحد من الشعراء الذين رسخوا ثورة الشعر الحديث، وقد ابتدع لغته ورموزه ومشروعه الشعري – الحضاري الخاصّ متأثراً بشعراء عالميين كبار. ويجب عدم تناسي وجهه الآخر المضيء وجه الناقد الحصيف والعميق والمثقف. وأعماله النقدية التي أفاد منها طلابه الكثر تندّ عن وجهه هذا. ودراسته الأكاديمية عن جبران هي من أهم المراجع النقدية في الحقل الجبراني.

إلا أن أجمل قصيدة كتبها خليل حاوي قد تكون انتحاره. هذه القصيدة الرهيبة التي كتبها بالدم والنار جعلت منه رمزاً بل جعلت منه ذلك «البطل» الذي كثيراً ما تغنى به في شعره وكثيراً ما حنّ اليه، «البطل» الذي لا ينتصر فقط على عاهات الحلم القومي العربي بل على عاهات الزمن نفسه. ولعل خليل حاوي انتصر في انتحاره حقاً على كل العاهات التي اعترته واعترت الوطن الذي حلم به. وقصيدة الانتحار هذه لا تقلّل من قوة قصائده الأخرى، بل تزيدها متانة ونزقاً.

يقول الشاعر الألماني نوفاليس: «الفعل الفلسفي الحقيقي هو الانتحار». وانتحار خليل حاوي لا يمكن أن يُقرأ إلا فعلاً فلسفياً حقيقياً، فعلاً شعرياً حقيقياً.


دَاري التي أَبحرتِ غرَّبتِ معي,



وكنتِ خيرَ دارْ



في دوخةِ البحارْ



وغربةِ الديارْ,



والليلُ في المدينهْ



تمتصُّني صحراؤُه الحزينهْ



وغرفتي ينمو على عَتْبَتِها الغبارْ



فأَبتغي الفرارْ,



أَمضى على ضوءٍ خفيٍّ



لا أَعي يقينَهْ



فتزهر السكينهْ



وأَرتمي والليلَ في القطارْ



***



رِحلاتيَ السبعُ وما كنَّزْتُهُ



مِنْ نعْمةِ الرحمانِ والتجارَهْ



يومَ صرعت الغُولَ والشيطَانَ



يومَ انشقَّتِ الأكفانُ عنْ جسمي



ولاحَ الشقُّ في المغارهْ,



رَوَيْتُ ما يَرْوُونَ عنِّي عادةً



كَتَمْتُ ما تعْيَا لهُ العِبارَهْ



ولم أَزَلْ أَمضى وأَمضى خلْفَهُ



أُحسُّهُ عندي ولا أَعيهِ



وكيفَ أَنساقُ وأَدري أَنني



أَنساقُ خلف العري والخسارَهْ



أودُّ لو أَفرغتُ داري عَلّهُ



إن مرَّ تُغْويه وتدَّعيهِ



أُحسُّه عندي ولا أَعيهِ.



( 2 )



وكان في الدارِ رواقٌ



رَصَّعَتْ جدرانَهُ الرسومْ



موسى يَرى



إزميل نارٍ صاعقَ الشرَرْ



يحفرُ في الصخْرِ



وصايا ربِّهِ العَشَرْ:



اَلزفتُ والكبريتُ والملحُ على سَدُومْ.



هذَا على جدارْ



على جدارٍ آخرٍ إطارْ:



وكاهنٌ في هيكلِ البعْلِ



يُرَبِّي أُفعُوَانًا فاجرًا وَبُومْ



يَفْتَضُّ سرَّ الخصبِ في العَذَارى



يهلِّلُ السكارى



وتُخصبُ الأرحامُ والكرومْ



تُفَوِّرُ الخمرةُ في الجِرَارْ.



على جدارٍ آخرٍ إطارْ:



هذا المعَرِّي,



خلف عينَيْهِ



وفي دهليزِهِ السحيقْ



دنياهُ كيدُ امرأَةٍ لم تغْتسِلْ



من دمِها, يشتمُّ ساقَيْها وما يُطِيقْ



شطَّي خليجِ الدنسِ المطليِّ بالرحيقْ



تكويرةُ النهدينِ من رغوتِهِ



وسوسنُ الجباهْ,



اَلمجرمُ العتيقْ



والثمرُ المرُّ الذي اشتهاهْ.



***



من هذه الرسومْ



يرشحُ سيلٌ



مثقلٌ بالغَازِ والسمومْ



تمتصُّهُ الحيَّةُ في الأنثى



وما في دمها من عنصر الغَجَرْ



والنِمرُ الأعمى وحمَّى يدهِ



في غَيرةِ الذكَرْ:



"لوركا" و"عُرسُ الدمِ" في إسبانيا



وسيْفُ ديكِ الجِنِّ يوم ارتدَّ من حماهْ



اَلعُنُقُ العاجِيُّ نهْرٌ أَحْمَرٌ



يا هولَ ما جمَّدَهُ الموتُ على الشفاه.



هذا الدمُ المحتقنُ الملغُومُ في العُروقْ



تعضُّهُ, تكويهِ ألفُ حُرْقَهْ



وفي حنايا دَرَجٍ



في عَتْمَةِ الأَزقَّهْ



حشرجةٌ مخنوقةٌ وشهقَهْ.



***



عاينتُ في مدينةٍ



تحترفُ التمويهَ والطهاره



كيف استحالتْ سمرةُ الشمسِ



وزهوُ العمرِ والنضارهْ



لغصَّةٍ, تشنُّجٍ, وضيقْ



عبرَ وجوهٍ سُلختْ من



سورها العتيقْ,



عاينتُ في الوجوهْ



وجهَ صبيٍّ ناءَ بالعمرِ



الذي أتلفَهُ أبوهْ



وأَطعمَ الجوعَ من الأفيونِ



رؤْيا خلَّفتهُ يعلكُ اللِّجامْ



وبعدَ حينٍ يحمدُ الصيامْ.



مدينةُ التمويهِ والطهارهْ



مدينةُ (...) تستفيقْ



فتبصرُ الأدغالَ تغْزو سورَها العتيقْ



وتبصرُ الحجارَهْ



تفرُّ في الطريقْ



ومن كهوفٍ شبعتْ مرارَهْ



تفورُ قطعانٌ جياعٌ



ليسَ يرويها سوى التدمير والحريقْ



***



هذا الدمُ المحتقنُ الملغومُ في العروقْ



( 3 )



بَلَوتُ ذلك الرِّوَاقْ



طِفلاً جَرَتْ في دمهِ الغازاتُ والسمومْ



وانْطَبَعتْ في صدرِهِ الرسومْ



وكنتُ فيه والصحابَ العتاقْ



نرفِّهُ اللؤْمَ, نحلِّي طعْمَهُ بالنفاقْ



بجُرْعةٍ من "عَسَلِ الخليفَهْ"



"وقهوة البشيرْ"



أُغَلِّفُ الشفاهَ بالحريرْ



بطانةِ الخناجرِ الرهيفَهْ



لحلوتي لحيَّةِ الحريرْ



***



سلَختُ ذاكَ الرِّواقْ



خلَّيتْهُ مأْوى عتيقًا للصحابِ العِتاقْ



طهّرْتُ داري من صدى أشباحِهِمْ



في الليل والنهارْ



من إلِّ نفسي, خنجري,



لِيني, ولينِ الحيَّةِ الرشيقَه,



عشتُ على انتظارْ



لعَلّهُ إن مَرَّ أُغويهِ,



فما مرَّ



وما أرسلَ صوبي رعدَهُ, بروقَهْ.



طلبتُ صحوَ الصبح والأمطَارَ, ربِّي,



فلماذا اعتكرتْ داري



لماذا اختنقَتْ بالصمتِ والغُبارْ



صحراءَ كلسٍ مالحٍ بَوَارْ.



وبعدَ طعْمِ الكلسِ والبَوَارْ



اَلعَتْمَةُ العَتْمَةُ فارَتْ مِنْ



دهاليزي, وكانت رَطْبةً



مُنْتِنَةً سخينَهْ



كأَنَّ في داري التقَتْ



وانسكبَت أَقنيةُ الأوساخِ في المدينَهْ,



تَفُورُ في الليلِ وفي النهارْ



يعُود طعْمُ الكلس والبَوَارْ



وذاتَ ليلٍ أرْغَتِ العَتمةُ



واجترَّتْ ضلوعَ السقفِ والجدَارْ,



كيف انطوى السقفُ انطوى الجدارْ



كالخرقةِ المبتلَّةِ العتيقَهْ



وكالشراعِ المرتمي



على بحارِ العَتْمَةِ السحِيقَهْ,



حفُّ الرياحِ السودِ يُحْفيهِ



وموجٌ أَسودٌ يعلِكُهُ,



يرميهِ للرياحْ,



أغلقتِ الغَيْبوبةُ البَيْضاءُ عَيْنَيَّ



تركتُ الجَسدَ المطحونَ



والمعْجونَ بالجراحْ



للموجِ والرياحْ



( 4 )



في شاطىءٍ من جُزُرِ الصَّقيعْ



كنتُ أَرى فيما يَرَى المُبَنَّجُ الصريعْ



صحْراءَ كلْسٍ مالحٍ, بَوارْ,



تمرجُ بالثلجِ وبالزهرِ وبالثِّمارْ



داري التي تحطَّمَتْ



تنهضُ من أَنقاضِها,



تختلِجُ الأخشابُ



تلْتمُّ وتحيا قُبَّةً خضراءَ في الرَّبيعْ



لن أَدَّعي أَنَّ ملاكَ الربِّ



ألقى خمرةً بكرًا وجمرًا أخضرًا



في جسدي المغْلُولِ بالصقيعْ



صفَّى عروقي من دمٍ



محتقنٍ بالغَازِ والسمومْ



عن لوحِ صدري مسحَ



الدمغَاتِ والرسومْ,



صحوٌ عميقٌ موجُهُ أُرجوحةُ النجومْ.



لن أَدَّعي, ولستُ أَدري كيفَ,



لا, لعَلَّها الجراحْ,



لعلَّهُ البحرُ وحفُّ الموجِ والرياحْ



لعلَّها الغَيْبوبةُ البيضاءُ والصقيعْ



شدَّا عروقي لِعُروقِ الأرضِ



كانَ الكفنُ الأبيضُ درعًا



تحتَهُ يختمرُ الربيعْ,



أَعشبَ قلْبي,



نبضَ الزنبقُ فيهِ,



والشراعُ الغَضُّ والجناحْ,



طفل يغَنّي في عروقي الجهلُ,



عريانٌ وما يُخلجني الصباحْ,



اَلنبضةُ الأولى,



ورؤْيا ما اهتدت للَّفظِ



غصَّتْ, أَبرقتْ وارتعَشَتْ دموعْ



هلْ دعوةٌ للحُبِّ هذا الصوتُ



والطيفُ الذي يلْمعُ في الشمس



تجسَّدْ واغْترفْ من جَسَدي



خبزًا وملْحًا,



خمرةً ونارْ,



وحدي على انتظارْ



أفرغتُ داري مرة ثانيةً



أَحيا على جمرٍ طريٍّ طَيبٍ وجوعْ



كأَنَّ أَعضائي طيُورٌ



عَبَرَتْ بحارْ



وحدي على انتظَارْ



( 5 )



في ساحة المَدينهْ



كانَتْ خُطَاها



زورقًا يجيءُ بالهزيجْ



من مَرَحِ الأمواجِ في الخلِيجِ



كانَتْ خُطَاها تكسرُ الشمسَ



على البلَّورِ, تسقيهِ الظلالَ



الخضرَ والسكينهْ,



لمْ يَرَها غيري تُرَى



في ساحةِ الْمدينَهْ?



لم تَرَها عينٌ من العُيونْ.



اَلعُمرُ لن يقولْ



يا ليتَ من سنينْ



ملءُ دمي وساعدي



أَطيَبُ ما تزهو به الفصولْ



في الكرم والينْبوعِ والحقولْ,



اَلعُمرُ لن يقولْ



يا ليتَ من سنينْ.



( 6 )



داري تعاني آخرَ انتظارْ



وقعُ الخطى الجَريئهْ



تُفتِّقُ المرجانَ والمرجَ



بأَرض الدارِ والجدارْ,



مرآةَ داري اغتسلي



من همِّكِ المعْقودِ والغُبارْ



واحتفلي بالحلوةِ البريئهْ



كأَنها في الصبحِ



شُقَّتْ من ضلُوعي



نبتتْ من زنبقِ البحارْ



ما عكَّرَ الشَّلالَ في ضحكتها



والخمرَ في حلْمَتِها



رعبٌ من الخطيئهْ



وما دَرَتْ كيْفَ تروغُ الحيَّةُ



الملْساءُ في الأقبيَةِ الوَطيئهْ,



اِحتفلي بالحلوَةِ البريئهْ



بالصحوِ في العيْنَيْنِ,



ما صحوُ الشعاعِ الغَضِّ



عَبْرَ النبعِ والثلوجْ,



بالصدرِ والخصرِ,



ترى ما تربةُ المسكِ



طريًّا دافئًا



ما بيْدرُ الحنطةِ والمروجْ



ما سُمْرةُ الصَّيْفِ على الثمارْ



ما نكهةُ البهارْ



ما كلُّ ما رَوَيْتْ



خلَّيْتُ للغَيرِ كنوزَ الأرضِ



يكفيني شبِعْتُ اليومَ وارتَوَيْتْ,



اَلحلوة البريئهْ



تُعْطي وتدري كلَّما أَعطَتْ



تَفُورُ الخمْرُ في الجِرَارْ



بريئةٌ جريئهْ



جريئةٌ بريئهْ



في شفَتيْها تُزبدُ الخمْرُ



وتصفُو الخمرُ في القَرارْ



لن يتخَلَّى الصُّبحُ عنا



آخِرَ النَهارْ.



( 7 )



وليلُ أَمسِ كانَ ليلَ الجنِّ



والزوبعَةِ السوداءِ



في الغَاباتِ والدروبْ



مال إليْنا الزنبقُ العريانُ



أَدفأناهُ باللمسِ وزودْناهُ بالطيُوبْ



أَوَتْ إليْنا الطيرُ



من أعشاشِها المخرَّبَهْ



رُحْنا مع القافلَةِ المغَرِّبَهْ



في أرخبيلِ "الجُزُرِ الحِيتانِ"



حوَّلْنا استرحنَا والتحَفْنَا الليْلَ والغُيُوبْ,



غريبةٌ ومثلُها غريبْ



حيْثُ نَزلْنا ارتفعَتْ



دارٌ لنا ودَارْ



خَفَّ إليْنا ألفُ جارٍ مُتعَبٍ وجارْ



في دَوْخةِ البحارْ



وغُرْبةِ الديَارْ



( 8 )



ولم أزَلْ أَمضى وأَمضى خلْفَهُ



أُحسُّهُ عنْدي ولا أَعيهِ



أَودُّ لو أفرغتُ داري علَّهُ



إنْ مرَّ تُغْويهِ وتدَّعيهِ



أُحسُّهُ عنْدي ولا أَعيهِ.



***



تمضي إلى غُرفتها



تعْثرُ في وَحْشتي,



وحدي,



مَدى عَتْمَتي



مَدى ليالى السهَادْ



دقَّاتُ قلْبي مثلُ دَلْفٍ أَسودٍ



تحفِّرُ الصمتَ



تزيدُ السوادْ,



وكانَ ما عاينتُ ممَّا ليْسَ



يُروى عادةً أَو يُعَادْ:



بئرٌ جفافٌ فوَّرَتْ,



وفورَتْ من عَتْمتى منارَهْ



أُعاينُ الرؤيا التي تصرعني حينًا,



فأَبكي,



كيْفَ لا أَقوي على البشارَهْ?



شهرانِ, طالَ الصمتُ,



جفَّتْ شَفَتي,



مَتَى مَتَى تُسعِفُني العبارَهْ?



وطالما ثُرْتُ, جلدتُ الغُولَ



والأَذنابَ في أَرضي



بصقتُ السم والسبابْ,



فكانتِ الأَلفاظُ تجري من فمي



شلاَّلَ قطْعَانٍ مِن الذئابْ,



واليَومَ, والرؤيا تغَنِّي في دمي



برعشَةِ البرق وصحو الصباحْ



وفطرةِ الطيرِ التي تَشْتَمُّ



ما في نيَّةِ الغاباتِ والرياحْ



تُحِسُّ ما في رَحِمِ الفَصْلِ



تَرَاهُ قبلَ أن يولدَ في الفُصُولْ,



تُفَوِّرُ الرؤْيا, وماذَا,



سوف تأتي ساعةٌ,



أَقول ما أَقولْ:



( 9 )



تحتلُّ عَيْنيَّ مروجٌ, مُدْخَناتٌ



وإلَهٌ بَعْضُهُ بَعْلٌ خصِيبٌ



بعْضُهُ جبَّارُ فحْمٍ ونارْ,



ملْيُونُ دارٍ مثلُ داري ودارْ,



تزهو بأَطفالٍ غصُونِ الكرمِ



والزيتونِ, جمرِ الربيعْ



غبَّ ليَالى الصَّقيعْ



يحتلُّ عيْنيّ رِواقٌ شمختْ



أَضلاعُهُ وانعَقَدَتْ عَقْدَ



زنودٍ تبتنيهِ, تبتني المَلْحَمَهْ



ومن غِنى تربتنا تستنبتُ



البلَّورَ والرخامْ



تكدَّسَ البلَّورُ من رؤيا عيُونٍ



ضوَّأَتْ واحترقتْ في حلَكِ الظَلامْ



وفرَّخَتْ أَعمدةُ الرخامْ



من طينَةِ الأَقبيَة المعْتِمَهْ



تلْك التي مصَّتْ سيُولَ الدمعِ,



مصَّتْ رَبَواتٍ



من طحينِ اللحْمِ والعِظَامْ



واختمرتْ لألفِ عامٍ أَسودٍ وعامْ



فكيْفَ لا يفرخُ منْها ناصعُ الرخامْ



أَعمدةً تنمو ويعْلوها رِواقٌ أَخضَرٌ



صَلْبٌ بوجهِ الريحِ والثلوجْ



اَلمِحورُ الهادىءُ والبرجُ الذي



يصْمدُ في دوَّامَةٍ تبتلِعُ البروجْ



***



رؤيا يقين العَينِ واللمسِ



وليْست خَبَرًا يحدو به الرواةْ



***



ما كانَ لي أن أحتفي



بالشمْسِ لو لم أرَكُمْ تغْتَسِلُونَ



الصُّبحَ في النِّيلِ وفي الأردنِّ والفُراتْ



من دمغَة الخطيئهْ



وكلُّ جسمٍ ربوةٌ تجوهرتْ في الشمْسِ,



ظلٌّ طيِّبٌ, بحيرةٌ بريئهْ.



أَمَّا التماسيحُ مَضَوا عن أرضِنَا



وفارَ فيهم بحرُنا وغَارْ



وخلَّفُوا بعْضَ بقايا



سُلِخَتْ جلُودُهُمْ,



ما نبتَتْ مطرحَها جلُودْ,



حاضرُهُم في عَفَنِ الأمس الذي



ولَّى ولنْ يَعُودْ



أَسماؤهمْ تحرقُها الرؤيا بعَينيَّ



دخانًا ما لها وجودْ.



***



ربِّي, لماذَا شاع في الرؤيا



دخانٌ أحمرٌ ونارْ?



أَحببتُ لو كانت يدي سيْلاً,



ثلُوجًا تمسحُ الذنوب



من عَفَنِ الأمس تنمِّي الكرْمَ والطيُوبْ,



تضيعُ في بحري التماسيحُ



وحقدُ الأنهرِ الموحلَهْ



وينبعُ البَلْسَمُ من جرحٍ



على الجُلْجُلَهْ.



أَحببتُ, لا, ما زالَ حبّي مطرًا



يسخُو على الأخضَرِ في أرضي,



عداهُ حطَبٌ وَقودْ



تحرقها الرؤيا بعَينيَّ دخانًا



ما لها وجودْ,



وسوف يأْتي زمنٌ أَحتضنُ



الأرضَ وأَجلو صدرَها



وأَمسَحُ الحدودْ



( 10 )



رِحلاتيَ السبْعُ رواياتٌ عن



الغُولِ, عن الشيطَانِ والْمَغارَهْ



عن حِيَلٍ تعْيا لها المَهارَهْ,



أُعيدُ ما تحكي وماذَا, عَبَثًا,



هيهاتِ أَستعِيدْ,



ضيَّعتُ رأس المالِ والتجَارَهْ,



ماذا حكى الشلاَّلُ



للبِئرِ وللسدودْ



لريشةٍ تجوِّدُ التمويه تُخفِي



الشحَّ في أقنِية العِبَارَهْ



ضيَّعْتُ رأس المالِ والتجارَه,



عدتُ إليكم شاعرًا في فمه بشارَه



يقولُ ما يقولْ



بِفِطرةٍ تحسُّ ما في رَحِمِ الفَصْلِ



تراهُ قَبْلَ أن يولدَ في الفُصُولْ




Aucun commentaire: