samedi 15 mai 2010

معجزة في قارورة

في  مساء يوم شتائيّ ممطر لجأ إلى الشجرة الوحيدة المنتصبة في موقف الحافلات اتّقاء للبلل و تحلّق حوله المنتظرون مثله ، على مسافة خطوات وقف أصحاب المظلاّت في اعتداد من يُحسن تقدير تقلّبات الطبيعة و لا يترك نفسه للصّدفة و الاحتمال . كانوا يرمقون الأشخاصَ المستظلّين بالشجرة و قد بلّل المطر رؤوسهم و ثيابهم فبدوا كالقطط المشرَّدة .



كان يرى في تشبُّهـه بالقطط البائسة كثيرا من التجَـنّي .. على القطط طبعا ، إذ لم يكن يَـرَى لنفسه نِـدًّا بين فصائل الحيوان سوى يرابيع المجاري فتكاد تتحقّ العدالة على غير عادة ، نفس العيون الحُمْر المُتّقدة ، نفس الشوارب الشوكيّة و الرّائحة الكريهة ذاتُها . وحدَها تلك المخلوقات المُقرِفة تُشعِرُه بنعمة المساواة ، ما عاد التفاوتُ الطبقيّ يعنيه حَسْـبُه أنّه صار نِـدًّا لذاته . و لأنّ القدر يصل إليه و يصبح أكثر سخرية فإنّ تمثّله باليرابيع يحمل قدرا غير يسيرٍ من الحَـيْف لصالحه ، فهي تفوقـه بوهيـميّة في مَحْيـاها لا تفكّر في سَكَنٍ و لا ملبَس و لا طعام ، و في فصل التزاوج تُطارِح أنثاها عن قبول أو عن إكراه ثمّ تنصرف راضية مَرضِيّـة أمّا هو فإن تلـكّـأ في دفع أجرة الشقّة فالشارعُ بانتظاره و حين يُقبل فصلُ الشتاء تراه ينبُـش الثّـياب القديمة المُستعمَلة باحِثا عن أقلّها ثمنا علّه يعثـر على معطف يقيـه لـذعَ الصّقيـع ، لا أدري لمـاذا يُذكّـرني بإحدى لوحات فون غوغ .. شَعـرٌ أشعث و لحية مُهمَلة و جسدٌ هزيل دُسَّ في معطف عسكريّ من مخلّفات جنود الألمان في الحرب الثانية .. لو اجتهد رسّام فوضويّ في إبداع هيأته لما بلغ من أمره شيئا يُذكَر . أمّا المأكل فهو آخر ما يشغله فما يتبقّى من دخله الضّئيل تأتي عليه قارورة الخمر اليوميّة ، معبودته الصّامِتة، اعتاد لقاءَها منذ سنوات في الحانة المجاورة لعمله ، يُخاطبُها ، يناجيها ، يلعنها ، يُقبّلها ، يبكي و ينتحب و حين تلفظ آخرُ كأس أنفاسَها في جوفه يُغادر الحانة إلى شقّتـه الباردة مُتـرنّحا بائسا وحيدا لا زوجة و لا خليلة .



اشتدّ المطر و ما عادت الشّجرة تحميه و من معه ، للطّبيعة أيضا مكرُها ، تختار الظرف المناسب لردّ اعتبارها . بدأ النّاس يركضون في كلّ اتّجاه ، بعضهم لفّ رأسه بكيس و الآخر احتمى بجريدته و تنازل نهائيّا عن فكرة قراءة أخبار الرّياضة و الحظّ إذ لا رياضة في المطر فالملاعب المغطّاة من كماليّات المدنيّة أمّا يومُ حظّه فواضح لا يحتاج إلى تنجيم . ارتعد قليلا ثمّ داهمته رغبة في الضحك حين رأى المرأة الواقفة حذوه تمسك بحقيبة يدها فوق رأسها كمن يحمل طبقا إلى الفرن و قد سالت على وجهها مساحيق الزينة خطوطا سوداء و حمراء فبدت كمصّاصة دماء . هذه المدينة لا تصلح للمطر لأنّه قادر على إحداث المهزلة فيها و جعلها ورشة كبيرة لتصوير شريط رعب أو خيال علمي ، حسبُ أيّ مخرج عالميّ أن يقتطع تذكرة الطائرة و يأتي زمن المطر ليبدأ التصوير على الفور، لن يكون في حاجة إلى أجهزة الخدع السينمائيّة و يمكنه أيضا أن يتخلّى على الممثلين و أجورهم المشطّة فالنّاس هنا يتمنّون خدمة الضّيف بل لربّما لن يشعروا أن هناك شريطا يُصوّرُ أساسا .



ازدادت قوّة المطر و طفحت المجاري و تسرّبت الرّوائح الكريهة ، خُيّل إليه أنّه لمح يربوعا يجري على الرّصيف المقابل لموقف الحافلات / اركض يا صديقي أنت على الأقلّ لن تخذلك الحافلة في هذا الطقس الكلب / و تقلّص فمه بحركة تُـعَدّ ابتسامة ساخرة عند هواة التفسير النفسي ، و ما كان الرّجل يبتسم و إنّما كان يتلذّذ دفء محبوبته و هي تنام على صدره ، كان عشقه للخمر بلغ حدّ الفناء ، لم تعد مجرّد مشروب مُسبِّب للنّشوة بل غدت قيدَه الثمين الذي يبتهل ألاّ يخسره ، عذابَه الذي يُشعره بنبض الحياة ، رمز اختلافه و جنونه في حضيرة بلهاء العاقلين . منذ مدّة عاف معاقرتها على الملأ و بدأ يرى في ذلك استباحة لها فصار يقتني القارورة و يُودعها الجيب الداخليّ لمعطفه ثمّ يعود أدراجه إلى البيت .



في ذلك المساء الممطر لحق به ضخمٌ لاستكمال خصومة يبدو أنّها من أجل مبلغ من المال و دون مقدّمات سدّد إليه ضربة في الصّدر فصمت خوفًـا و جَهرًا تهدّج صوتًـا لربّه " اللهمّ إنّي مظلوم فانتصِـرْ و رُدَّ عنّي كيد المُعتدي." تشـقّقَ زجاج القارورة فأدْمَـى يدَ الضّارب و عجب النّاس سرعة استجابة الدّعوة و كيف صار صدرُ الرّجل زجاجًا فحملوه على الأكتاف و توسّلوا مولاهم الجديد نُـصرة في الدّين و الدّنيا . كان خمر القارورة قد تسرّب من أردان المعطف فتمسّحوا منه بزيت القداسة و ارتشفوا فاستتبّ له فيهم الأمر . كان لا يزال على أكتافهم يترنّح تحت تأثير اللّكمة و قد انغرست بعض شظايا الزجاج في صدره حين أدرك أنّه خسر قيده اللّذيذ و لكنّ المَعالي أعجبته

1 commentaire:

Anonyme a dit…

bravo..